الدولة القراخانية (تاريخ وجغرافيا)

تعتبر الدولة القراخانية أكبر دولة تركية ظهرت فى تركستان بعد إمبراطورية "كوك تورك" وهى أول دولة تركية إسلامية تحكم فى تركستان الشرقية والغربية (بلاد ما وراء النهر).

يطلق على الدولة القراخانية أسماء متعددة : كدولة خانات تركستان، الدولة الخاقانية، الإليك خانية، آل أفراسياب. وترجع هذه الدولة فى نشأتها إلى إحدى قبائل الترك " ياغما، جيغل، القارلوق، أو الأويغور" - على اختلاف المؤرخين - والتى كانت تسكن منطقة كاشغر فى تركستان الشرقية  حيث حكموا المنطقة وأسسوا دولتهم بها عام 267هـ / 880م أو فى عام 840م واتخذوا من كاشغر عاصمة لهم، فى حين كانت دولة الأويغور الثانية تحكم فى شرق تركستان فى بش باليق (أورومجى الحالية) وتورفان ، ثم توسعت الدولة القراخانية وامتدت إلى تركستان الغربية.

لم تحظ الدولة القراخانية باهتمام المؤرخين المعاصرين لها إلا بعد قضائها على الدولة السامانية بعد صراع طويل عام 389هـ/999م حيث ظهرت كدولة إسلامية مستقلة لا تخضع لسيادة دولة أخرى، وتقاسمت مع الدولة الغزنوية أملاك السامانيين فى بلاد ما وراء النهر واعتبر نهر جيحون(أموداريا) الحد الفاصل بين أملاك الدولتين. عاصرت الدولة القراخانية الدولة السامانية والغزنوية والسلاجقة، ودولة الأويغور الثانية والتى دخلت فى تبعيتها فى القرن الثانى عشر الميلادى، ودخلت مع الجميع فى علاقات ودية وصراعات أيضا كان من أخطرها الصراعات مع دولة السلاجقة والتى سبقت نهاية الدولة القراخانية. 

قُسمت الدولة القراخانية إلى قسمين فى عهد الخاقان الأعلى أرسلان خان حيث كان ضعيف الهيبة حريصا على إرضاء إخوته وأقاربه فقسم الدولة بينهم مما أدى لسعى البعض منهم للانفصال عن سلطانه، شملت الدولة الشرقية تركستان الشرقية الحالية وعاصمتها بلاساغون ثم كاشغر ويحكم فيها الخان الأعظم دون سلطات تذكر على القسم الآخر من الدولة. بينما شملت الدولة الغربية إقليم فرغانة وما بين النهرين وعاصمته الأولى سمرقند ثم بخارى.

مع ضعف حكام الدولة القراخانية وتزايد صراعاتها الداخلية والخارجية فقدت الدولة الكثير من قوتها وتماسكها وهاجمها القراخطاى واستولوا على بلاساغون وجعلوها عاصمة لهم، كما انتهزوا فرصة تمرد حاكم ختن على سلطة الخان الأعلى فى كاشغر واشتعال الحرب بينهما فهاجموا كاشغر وختن وسقطت الدولة القراخانية الشرقية فى يد القراختاى عام 522هـ/1128م، وفر الخان الأعلى وحكام الأقاليم إلى المناطق الخاضعة للدولة القراخانية الغربية.

بعدما ثبت القراخطاى أقدامهم فى حكم تركستان الشرقية اتجهوا للسيطرة على الدولة القراخانية الغربية وقاموا بالهجوم عليها وهزموا جيش محمود خان حاكم الدولة القراخانية الغربية عام 1137م، وأدت هزيمته إلى تمرد الكثير من البدو الأتراك فى نواحى سمرقند على حكمه، فاستنجد الخان محمود بالسلطان سنجر السلجوقى لمواجهة البدو والقراخطاى، وقد حدثت المعركة الفاصلة بين التحالف القراخانى السلجوقى وبين جيش القراخطاى (200ألف)جندى مدعوما بنحو(40ألف) من البدو فى "قطوان" شمال سمرقند ولقى التحالف القراخانى السلجوقى هزيمة ساحقة وذلك فى صفر سنة 536هـ/ 9/9/1141م. وسقطت على إثر ذلك الدولة القراخانية الغربية، واستعمل القراخطاى أمراء الدولة القراخانية كحكام لهم على بعض المناطق، وفشلت محاولات بعض أمراء القراخانيين لإعادة إحياء دولتهم مرة أخرى.

 تطورت الزراعة والصناعة والتجارة فى العهد القراخانى فقد وقعت الكثير من مدنهم على طريق الحرير مما أسهم فى زيادة الأنشطة التجارية والصناعية واستخراج المعادن من مناجم جبال تالاس وفرغانة ، وازداد انتقال الأتراك - وبالأخص الأويغور -  من حياة البداوة إلى الاستقرار فى المدن المزدهرة  فتمتعت الدولة القراخانية بالاستقرار و بالرخاء الاقتصادى رغم غلبة البداوة والطابع العسكرى على الدولة.

تركت الدولة القراخانية أكبر الأثر فى تاريخ الأتراك الشرقيين إذ حين أسلم خانهم (ساتوق بغراخان) المتوفى سنة 344هـ/956م وتسمى بعبد الكريم بغراخان تبع ذلك التحول التدريجى السريع والكبير للأتراك الشرقيين للإسلام، حيث أسلم عام 349هـ/960م سكان نحو مائتى ألف خاركاه(خيمة) أى نحو مليون نسمة وذلك فى عهد موسى بن ساتوق بغراخان والذى أعلن الإسلام الدين الرسمى للدولة القراخانية، كما ساهم القراخانيون فى نشر الإسلام بين القبائل التركية الوثنية، وبفضل نشاطهم الدعوى أسلم أتراك القرغيز عام 435هـ/1043م وكانت أعدادهم تزيد على سكان عشرة آلاف خاركاه أى نحو 50 ألف نسمة. كما نشر القراخانيون الإسلام على جانبى جبال تنغرى تاج (تيان شان) وعملوا على توغل الإسلام وحضارته حتى حدود الصين.

كما ساهم القراخانيون فى صد هجمات القبائل الوثنية على بلاد الإسلام ، وقضوا على محاولات الشيعة الإسماعيلية لنشر مذهبهم بين الأتراك حديثى العهد بالإسلام وأخذ البيعة منهم للخليفة الفاطمى فى مصر.

تميز أغلب حكام الدولة القراخانية بالتدين والعدل وتجنب المحرمات وشرب الخمر، كما حاربوا البدع والمظالم ، وبنوا المساجد فى كافة مدن الدولة وأكسبوا حكمهم طابعا شرعيا، وأعلنوا ولائهم للخليفة العباسى فى بغداد، واتخذوا لقب موالى أمير المؤمنين منذ العام 393هـ/1000م ونقشوا على سكتهم ما يدل على ولائهم للخليفة العباسى كمولى أمير المؤمنين ، سيف خليفة الله كما نقش عليها العبارات الدينية مثل(لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وأيضا ما يدل على حميتهم الدينية مثل : نصر الملة ، فخر الملة ، ناصر الحق ملحقة باسم الخان الذى يحكم. وفى عهد القراخانيين تم استخدام الأبجدية العربية بدلا من الأبجدية الأويغورية ولازالت مستخدمة حتى اليوم.

لقد كانت إسهامات القراخانيين فى نشر وحماية الدين الإسلامى والحضارة الإسلامية كبيرة فى عموم تركستان شرقها وغربها.

د/ عزالدين الوردانى

باحث متخصص فى شؤن آسيا الوسطى