أحفاد “الإمام البخاري” يا مليك المروءة

الكاتب : 

بتاريخ 

غبطت الزميل الكبير دواود الشريان وأنا أستمع لتلكم الدعوات التي أمطرها عليه بعض أبناء المهاجرين التركستانيين والبخاريين الذين لم تتم تسوية أوضاعهم، بعد حلقته يوم الأحد الفارط التي خصصها للحديث عن معاناتهم، وكنت أردد في نفسي ليت الشريان ينصت لتلك الألسن التي لهجت بالامتنان العميق وبالثناء عليه وشكره لموقفه الوطني والشهم من قضية أحفاد الإمام البخاري الذين هاجر أجدادهم لهذه البلاد من أزيد من 90 عاما خلون، وواكبوا تأسيس هذا الوطن، وكنت أرد على الشخصيات الوطنية الكبيرة التي اتصلت علي: كم كان الشريان نبيلا وشهما، ووفيا لكل أصدقائه ممن تعود أرومتهم لأصلاب أولئكم المهاجرين، وأولهم أستاذي الأغلى عبدالقادر طاش -يرحمه الله- الذي كان محبا وصديقا لهذا الإعلامي المبدع.

 

حلقة “الثامنة” أتت في وقتها، وأوضحت معاناة هذا الجيل الرابع من أحفاد التركستانيين والبخاريين، وكاتب السطور يشتغل من عام كامل على كتاب يرصد قصص أولئكم الأجداد الذين هربوا بدينهم من جحيم جوزف ستالين إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها، وأدرك نفرا ممن بقي، وسجل أحاديثهم عن مجيئهم لهذه البلاد، والطرق الوعرة التي سلكوها، وقد قضى شطرٌ منهم وهم يعبرون جبال “الهمالايا” و “بامير”، وسقطوا مع أحصنتهم وبغالهم في الأودية السحيقة هناك، وبعد معاناة وعذاب مع قطاع الطرق والثلوج والصحارى التي قطعوها؛ وصلوا لهذه البلاد هربا من جحيم الشيوعية التي كانت تفتك بهم. رصدت مع أولئك الأوائل بعض المظاهر في كيفية اندماجهم بالمجتمع السعودي في تلك الأزمنة الصعبة، حيث قضى شطرُ آخر منهم بسبب الحرارة المرتفعة التي لم تكن في بلادهم؛ لينجفل بعضهم إلى مدينة الطائف لاعتدال جوها، واندمجوا بكل الحب والانسجام مع الشعب السعودي، وكانوا يرفضون أن يسموا بغير تسمية “المهاجرين”، حيث أن معظم من أتى كانوا من صفوة العلماء والتجار وميسوري الحال، الذين استطاعوا الفرار بدينهم.

 

أدركت العم صفا خان، الذي مات قبل أشهر -يرحمه الله- وبلغ حوالي المائة عام تقريبا، وسجلت معه كثيرا من الذكريات، وكان الرجل يقول لي: “كم كان ملوك هذه الدولة كرماء معنا مذ أتينا، وكنا ندلّ نحن الجيل الأول بموقف الملك عبدالعزيز منا، ووصفه لنا بأننا أحفاد الإمام البخاري، وكيف كنا نتباهى ونردد في مجالسنا رده الحاسم على السفير الروسي في جدة وقتها، ونصرته لنا. هربنا من تسعين عاما لجنّة هذه البلاد التي أبدلنا الله بها عن جحيم الشيوعيين الذين آذونا، أتينا من تركستان الغربية حيث المستبد الطاغية ستالين، والبعض من تركستان الشرقية حيث الظالم ماوتسي تونغ، ونحمد الله تعالى أن عوّضنا ببلاد الحرمين”.

 

أسوق بعض ما كنت أحاور به أولئكم المهاجرين الأوائل ليعرف المسؤولون والمجتمع السعودي عن الشريحة الكبيرة التي اندمج أبناؤهم وانصهروا في جسم هذا الوطن الواسع، فكنت أسأل ذلكم الرعيل عن الأشياء التي كانوا يحرصون على غرسها في أبنائهم، فأجاب معظمهم بأن احترام هذه الدولة التي استضافتنا، والتزام قوانينها، أول ما نغرسه في أبنائنا، لذلك لا تجد إلا النادر من جماعتنا حينها؛ وقد تورط في مخالفات أو جرائم. بيد أن أهم مبدأ كنا نحرص عليه هو شرف العمل ومكانته، كان هذا من فروض العين الذي نعوّد أبناءنا عليه، ونردد عليهم بأنّ مدّ اليد والتسول عيبٌ كبير بل جريمة؛ لذلك امتهنا –وأبناؤنا- كثيرا من مجالات العمل المتاحة وقتذاك، ويتذكر المجتمع في مكة والمدينة والطائف، تصدر هؤلاء العمل في شتى المهن، فتجدهم فتحوا أفران التميس الشهير، ومطاعم الرز البخاري، وفتحوا محلات الأقمشة والخياطة ودكاكين الأحذية، وجملة أعمال شريفة عملوا فيها؛ بسبب هذا المبدأ الذي اعتنقوه وحرصوا على غرسه في أبنائهم .

 

هناك موضوع المحافظة على الصلوات، وتحفيظ القران الكريم، فقد نشر الرعيل الأول من التركستانيين والبخاريين -ولا أنس إضافة المهاجرين من الأصول الصينية الذين هاجروا سويا معهم- في المدن السعودية التي قطنوها؛ الكتاتيب الخاصة بتعليم وتحفيظ القرآن، ويقوم عليه “الملا” أو “القاري”، ويجب على كل مهاجر إرسال أبنائه لحفظ القرآن الكريم من سنواته الأولى؛ لذلك كان الجيل الثاني ممن تعلم ودَرج في مقاعد التعليم وتفوّق بسبب بركة القرآن الكريم وقوة الحافظة والذكاء اللتين تنبجسا في الحفظة، وملأ هؤلاء الجامعات السعودية في شتى التخصصات، العلمية بالخصوص منها، وانخرط بعضهم في الجيش السعودي من تلك الأزمنة، وساهم جلهم في التأسيس الحديث والتنمية لبلادنا، ووصل كثير منهم لمناصب كبرى في الدولة، وبعضهم بات وزيرا يخدم هذا الوطن الذي رضع حبه، ولا يعرف سواه.

 

الأمانة وصدق التعامل وجملة أخلاق العلماء تحلّى بها معظم ذلك الجيل، يحكي لي العم إسماعيل قاضي أحد كبار وجهاء مدينة الطائف؛ أنه لا ينسى موقفا في الثمانينيات الهجرية، عندما أتى وفد من بخارية الطائف إلى والده في مكتبه، وعائلة القاضي تملك سوقا في الطائف القديمة اسمه “خان القاضي”، ومعظم مستأجريه من هؤلاء المهاجرين، وكان ثمة قرار صدر قبل أشهر بتحديد إيجار المحلات والمنازل، ولكن القيمة التي  حددت كانت منخفضة بنظر الملّاك، وبادر هذا الوفد بقوله: “نحن في مذهبنا لا يجوز لنا أكل المال المغتصب، المذهب الحنفي الذي نحن عليه يقول بحرمة أكل المال الذي يؤخذ بغير رضا صاحبه. حدّد لنا الأجر الذي يرضيك ونحن نمتثل لما تريد؛ لأننا لم نترك ديارنا وأهلنا ومزارعنا وأموالنا، ولم نهاجر إلى هذه البلاد إلا طاعة لله، ولا نريد أن ننهي حياتنا بأكل مال حرام”. يكمل العم إسماعيل قاضي أن والده سرّ كثيرا من موقفهم، وقال لهم بل حددوا أنتم ما ترونه، وفعلا زادوه على الإيجار المحدد، وما لبث أن ألغي القرار بعد سنوات خمس، وكان العم القاضي من المروءة بمكان أن حفظ لهم هذا الموقف، ورفع على كل المستأجرين خلا هؤلاء التركستانيين والبخاريين الذين أتوه.

 

في الحلقة الرائعة للزميل الشريان سُردت قوانين واستثناءات أكرم بها ملوكنا أبناء هؤلاء المهاجرين، واليوم هم يعيشون فترة صعبة بسبب عدم وجود جوازات لهم، بما اشترطت عليهم الداخلية لتجديد اقاماتهم، ولا توجد تعترف بهم، ونحن نتحدث عن الجيل الرابع، حيث لم يحصل بعض أولئك المهاجرين على الجنسية السعودية حينها، ولا يعرفون وطنا لهم سوى مملكة الخير هذه، وتطّبع هؤلاء الأبناء بكل العادات السعودية، ومعظم المجتمع من جنوبه لوسطه لشرقه وشماله؛ له من الأصدقاء الخلّص البخاريين، والكثير منهم ترعرع معهم في ذات الحارة الواحدة، وأكلوا وتعايشوا سويا، بل بعضهم صاهر منهم وباتت أرحامٌ بينهم ووشائج ..

 

أتوجه هنا لمليك المروءة سلمان بن عبدالعزيز أن أولِ هذه الشريحة مكرمة ملكية منك، وليتك تأمر يا أبا فهد ب”لمّ الشمل”، حيث أن أسرا عديدة منهم، معظم أبنائها سعوديون، بينما بقي واحد أو اثنين لم يتحصل على الجنسية السعودية، وشرخ ذلك الأسرة بكاملها، فلعل قرارا بلمّ شملهم، على الأقل لمن عاش جدهم أو أبوهم من سبعين عاما وأزيد في هذه البلاد الطاهرة، والمشكلة هذه تشمل معظم الجاليات التي عاشت في بلادنا، فلعل هذا إيذانٌ بعلاج كلي شامل، يوقف هذا الجرح الراعف الذي يسيل.

 

ليتك يا مليكنا الحبيب تأمر بلجنة لدراسة أوضاع هؤلاء الأحفاد لأولئكم المهاجرين الذين قصدوكم دون سائر العالم، ولا يعرفون وطنا سوى وطن العلم والطموح والريادة،  هؤلاء هم أحفاد الشيخ “وقاص” الذي وثق به الملك عبدالعزيز لتحفيظ ملوكنا العظام من آل سعود القرآن الكريم في الحرم المكي الشريف، وشرُفَ أخوك الأمير نايف -يرحمه الله- بإتمام حفظ القرآن على يديه. أحفاده وجماعته اليوم هم بمسيس الحاجة منك يا ملك الحزم والنبل والوفاء أن تعطف عليهم كرمى ذلك الشيخ الجليل يرحمه الله.

 

أمرت يا مليك المروءة قبل أسابيع بإنشاء مجمع السنة النبوية، وهؤلاء أحفاد إمام السنة محمد بن إسماعيل البخاري؛ فأكرمهم بلفتتك؛ وسيحفظ لك التأريخ ذلك.

 

https://www.an7a.com/317195/