طريق الحرير الصينية الجديدة تقوّض نفوذ موسكو في آسيا الوسطى وأوروبا

 روبرت كابلان

 

تقضي مبادرة «حزام واحد، طريق» بتوسّع اقتصادي يسير على درب التجارة القديمة في أوراسيا، وهي تغالي في الطموح. فهي شأن كبرى الاستراتيجيات كلها تحمل رؤية تطلعية إلى المستقبل. وطريق الحرير الجديدة هي السبيل إلى بلوغ قادة الصين ما يرمون إليه: تحوّل بلدهم إلى قوة عظمى. وهذه الطريق مؤلفة من شبكة طرق وجسور وأنابيب نفط وغاز وسكك حديد تربط بكين بدول في آسيا الوسطى غنية بموارد الطاقة. وتسعى «حزام واحد، طريق» إلى التنمية وإلى إحكام الطوق على المنطقة المسلمة في الصين على تخوم آسيا الوسطى. وإلى الغرب، تسعى بكين إلى تحالف عضوي مع إيران.

 وترمي بكين إلى الهيمنة على أوراسيا، وهذا يترتب عليه تهميش روسيا وإنزالها إلى مرتبة قوة من الدرجة الثانية. فالصين وروسيا تشتركان في حدود برية مساحتها أكثر من 2600 ميل، وفيها غابات لا متناهية تفصل بين أقصى الشرق الروسي عن منشوريا الصين- وهذه كانت، إلى وقت قريب، مناطق متنازعة حل النزاع عليها في العقد الماضي. وفي 1969، إثر نشر نحو 30 كتيبة سوفياتية على الحدود، نشرت الصين 59 كتيبة، وعمقت هذه الحادثة الهوة بين بكين والسوفيات، فانتهز الرئيس ريتشارد نيكسون الفرصة السانحة وانفتح على الصين، وغلب الانفراج على العلاقات مع الاتحاد السوفياتي. والحق يقال الدولة الروسية هشة في أقصى شرقها. ويقتصر عدد السكان من الإثنية الروسية فيها على 6 ملايين نسمة. والمهاجرون الصينيون يتقدمون شيئاً فشيئاً إلى الشمال، ويتوجهون إلى الأراضي المترامية القليلة السكان في سيبيريا، الثرية بالغاز الطبيعي والنفط والخشب والألماس والذهب التي تتوق الصين إلى وضع اليد عليه.

وترجح كفة الصين على كفة روسيا في آسيا الوسطى، فالغلبة لها هناك. وفي العقد الأخير، صارت شركة «تشاينا ناشونال بتروليوم كوربوريشن» اللاعب الأبرز في مجال الطاقة في آسيا الوسطى. وبكين تضخ النفط القازاقي إلى أوروبا وإلى أراضيها عبر خط أنابيب، وينقل الصينيون الغاز من تركمنستان إلى غرب الصين. والأموال الصينية تتدفق على المنطقة هذه لإنشاء شبكات طاقة وبنى نقل تحتية، وهي تغير وجه آسيا الوسطى، وترسي عمود مشروع «حزام واحد، طريق» الفقري. وإيران تقع على المقلب الآخر من آسيا الوسطى، وعدد سكانها 80 مليون نسمة، وهي تحيط بحقول النفط والغاز في بحر قزوين والخليج، وموقعها حمل بكين على مد خطوط سكك حديد في الهضبة الإيرانية وإبرام صفقات طاقة مع طهران وتنقيب الشركات الصينية في المناجم، وإرسال جيش من المقاولين إليها. ولا تخسر روسيا فحسب أمام الصين في اقصى شرق آسيا ووسطها، بل هي تتراجع أمامها في أوروبا. ففي وقت كانت موسكو تقوض استقلال الجمهوريات السوفياتية السابقة المطلة على البلطيق والبحر الأسود من طريق التخريب والتدخل العسكري، كانت بكين تمد أذرعها التجارية في أوروبا. ونفور إدارة ترامب من التجارة الحرة- وموقفها الملتبس من حماية الحلفاء الأوروبيين- عبد الطريق أمام بكين إلى تنفيذ خططها في أوروبا: المحطة الأخيرة الغربية في «حزام واحد، طريق». ومكاسب الصين لن تضعف النفوذ الأميركي فحسب في أوروبا، بل النفوذ الروسي كذلك. وعلى سبيل المثل، تنزلق اليونان، وهي تدين بالأورثوذكسية شأن روسيا، إلى قبضة الصين الاقتصادية، عوض الميل إلى موسكو إثر التوتر مع الاتحاد الأوروبي. وصار مرفأ بيروس حلقة من حلقات طريق الحرير الصينية الجديد. وتتنافس بكين على إنشاء منشآت طاقة نووية وغيرها من بنى الطاقة في بلغاريا ورومانيا وبولندا وتشيخيا. وهوس الرئيس الروسي بتحدي الغرب، في وقت تبسط الصين في عهد شي جيبنيغ أذرعها في أوروبا، يسلط الضوء على قصر نظره.

و «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» الروسية- الصينية تقضي بتزويد موسكو بكين بالنفط وإجراء مناورات عسكرية مشتركة. لكن كفة التجارة تميل إلى جهة الصين. فانخفاض أسعار الطاقة قوّض اعتماد بكين على موسكو. وهذه تبيع السلاح لخصمي الصين، الهند وفيتنام. وأفلحت الصين في استنساخ تصاميم الأسلحة الروسية. ويبدو أن الحلف بين موسكو وبكين هو حلف مصلحة، فالتنافس بينهما طويل الأمد. وغالباً ما يستخف به، ولا تسلط عليه الضوء وسائل الإعلام. وطموحات الصين الجغرافية– السياسية، شأن طموحات روسيا، مولودة من اضطراب داخلي. فنفوذ الدولة الصينية هش في غربها، أي تاريخياً في تركستان الشرقية- حيث تقيم أقلية الأويغور التركية المسلمة. وتنظر غالبية الهان بعين ارتياب وهلع إلى الأقلية هذه. فديانة الأويغور تمنحهم هوية مستقلة عن الدولة الصينية. فعلى خلاف حال سكان التبت وعلاقاتهم بالدالاي لاما، لا ممثل للأويغور تتفاوض معه بكين. فهم قوة فوضوية قد تنتفض، إثر كارثة بيئية أو غيرها من الحوادث الطارئة. ومبادرة «حزام واحد، طريق» تنسج علاقات اقتصادية وسياسية مع آسيا الوسطى التركية اللسان والهوية، وتقربها منها، وتنأى بها عن الأويغور وتحرمهم من قاعدة خلفية تدعم انتفاضتهم. وليس في الإمكان لجم الصين إلا من طريق (إيقاظ أو التعويل على) شياطينها الداخلية. وعلى ما كتب صمويل هانتينغتون في دراساته الكلاسيكية الصادرة في 1968 والموسومة بـ «النظام السياسي في مجتمعات متغيرة»، كلما تعاظمت بنية المجتمع المركبة، على مؤسساته أن تواكب التعقيد وتتجاوب معه، وإلا أفضى نشوء طبقة وسطى واسعة إلى زعزعة الاستقرار. والأوتوقراطية الصينية قد تجبه أزمة مشروعية مع تعاظم التوترات الاجتماعية والإثنية والدينية في مناطق الهان والأويغور على حد سواء، وخصوصاً إذا تباطأ النمو الاقتصادي وخابت آمال الصينيين وتوقعاتهم المتنامية. لذا، نجاح «حزام واحد، طريق» وثيق الصلة بمآل المشروع في آسيا الوسطى وغيرها من المناطق أكثر من مآله في الداخل الصيني. والتنافس بين الصين وروسيا يحتمه قربهما الجغرافي، ولن يذوي. وفي وسع واشنطن المناورة وتشديد موقفها وتخفيفه مع كل منهما حين تدعو الحاجة. وعلى أميركا الحؤول دون هيمنة صينية على الجانب الشرقي من المعمورة مثلما حالت دون هيمنتها في غربها من دون تسليم آسيا الوسطى وشطر من الشرق الأوسط إلى روسيا.

وليس مدار المعضلة هذه على الجغرافيا- السياسية. فلا طموحات «إقليمية» لواشنطن في أوراسيا. لذا، لا يرتاب منها سكانها على ما يرتابون من بكين وموسكو. وفي وسع أميركا تعزيز صدقيتها من طريق الترويج للتجارة الحرة وحقوق الإنسان في مجتمعات أوراسيا المشرعة على التغييرات، وموازنة النفوذ الصيني والروسي وتنافسهما. فالنمو الاقتصادي الذي تروج له الصين في مجتمعات طريق الحرير- وتحديداً في الديكتاتوريات العقيمة في إيران وآسيا الوسطى- يخرجها (المجتمعات هذه) عن طور السيطرة، ويصير حكمها عسيراً. لكن دونالد ترامب يزدري القيم الجامعة والعامة، وهي وسيلة الفوز بمكاسب جغرافية– سياسية .

 

* باحث، صاحب «انبعاث عالم ماركو بولو: الحرب، والاستراتيجيا والمصالح الأميركية في القرن الحادي والعشرين»، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 3/11/2017، إعداد منال نحاس.

المصدر: جريدة الحياة

http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/25401635