كيف يبدو العيش في دولة مراقبة

إخضاع الفرد بالمراقبة، تعبيرية للفنان بريان ستاوفر – (المصدر)

جيمس ميلوارد* - (نيويورك تايمز) 3/2/2018

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

تخيل أن تكون هذه حياتك اليومية كما يلي: بينما تكون في طريقك إلى العمل أو في جولة، فإنك تمر كل 100 متر بمجمع للشرطة. وتتعرف كاميرات الفيديو المزروعة في زوايا الشوارع وعلى أعمدة الإنارة على بصمة وجهك وتتعقب تحركاتك. وفي العديد من نقاط التفتيش، يجري رجال الشرطة مسحاً إلكترونياً لبطاقة هويتك، وقزحية عينيك، ومحتوى هاتفك المحمول. وفي السوبرماركت أو البنك، يتم مسحك مرة أخرى، وتُفحص حقائبك بالأشعة السينية، ويمرر شرطي عصا على جسمك -على الأقل إذا كنت من المجموعة العرقية الخاطئة. وعادة ما يتم التلويح لأعضاء المجموعة الرئيسية ويُسمح لهم بالمرور.
قبل ذلك، يكون عليك أن تملأ مسحاً استقصائياً عن عرقك، وممارساتك الدينية و"مستواك الثقافي"؛ وعما إذا كنتَ تحمل جواز سفر أجنبيا أو لك أقارب أو معارف في الخارج، وما إذا كنت تعرف أحداً تعرض للاعتقال في أي وقت أو كان عضواً فيما تسميه الدولة "السكان الخاصين".
وتكون هذه المعلومات الشخصية، إلى جانب بيانات بصماتك الحيوية، موضوعة في قاعدة بيانات مرتبطة برقم هويتك. ويقوم النظام بفرز كل هذا في نتيجة مركبة تصنفك في إحدى خانات "آمن"، "طبيعي"، أو "غير آمن". وبالاستناد إلى هذه الفئات، ربما يُسمح أو لا يُسمح لك بزيارة متحف، والمرور عبر أحياء معينة، أو الذهاب إلى مركز التسوق، أو الإقامة في فندق، أو استئجار شقة، أو التقدم لوظيفة أو شراء تذكرة قطار. أو ربما يتم احتجازك لتخضع لعملية إعادة تعليم، مثل العديد من آلاف الأشخاص الآخرين.
خيال علمي ديستوبي؟ كلا. هكذا ستكون حياتك في شمال غرب الصين اليوم إذا كنتَ من عرق الإيغور.
ربما لم تعد الصين الآن تلك الأرض القاتمة التي تطابق نمط ماو، حيث تعقد جلسات النقد الذاتي وتردد مكبرات الصوت الشعارات الشيوعية. إنها تتباهى بالقطارات المشرقة بسرعة الرصاصة، ومراكز التسوق الفاخرة والحياة الاستهلاكية التي تجعلها الهواتف المحمولة أكثر سهولة. أما عندما يأتي الأمر إلى السكان الأصليين من الإيغور في منطقة شينجيانغ الغربية الشاسعة، فقد عمد الحزب الشيوعي الصيني إلى تحديث أساليبه الشمولية وتوزيدها بأحدث التقنيات المتطورة.
ينظر الحزب إلى الإيغور، المجموعة العرقية الأصلية التي تتحدث اللغة التركية في منطقة شينجيانغ المتمتعة بالحكم الذاتي اسمياً، على أنهم انفصاليون خطِرون. وكانت إمبراطورية تشينغ قد غزت شيجيانغ في القرن التاسع عشر. ثم أفلتت تلك المنطقة بعد ذلك من سيطرة بكين، إلى أن أعاد الشيوعيون احتلالها بمساعدة سوفياتية في العام 1949. واليوم، يشكل العديد من شعوب آسيا الوسطى، بمن فيهم الإيغور والكازاخ والقرغيز، نحو نصف سكان المنطقة؛ أما الباقون فهم من عرقَي الهان والهوي، الذين وصلوا من شرق الصين بدءاً من أواسط القرن العشرين.
على مدى السنوات العديدة الماضية، تحدت أعداد صغيرة من الإيغوريين السلطات الصينية بعنف، خاصة خلال اضطرابات العام 2009، أو ارتكبت أعمالاً إرهابية. لكن الحزب الشيوعي الصيني أخضع كل السكان الإيغوريين منذ ذلك الحين إلى نحو 11 مليون اعتقال تعسفي، بالإضافة إلى الرقابة الشديدة والتمييز المنهجي. والإيغور مسلمون ثقافياً، وكثيراً ما تستشهد الحكومة بتهديد الأيديولوجية الإسلامية لتبرير سياساتها الأمنية في المنطقة.
لقد عكفت على إجراء البحوث حول منطقة شينجيانغ لثلاثة عقود. وكانت التوترات العرقية شائعة خلال كل هذه السنوات، وبعد وقت قصير من هجمات 11/9، شرعت السلطات الصينية في إثارة طيف "القوى الثلاث الشريرة: الانفصالية، والتطرفية، والإرهاب" كذريعة للانقضاض على الإيغوريين. لكن قمع الدولة في شينجيانغ لم يكن في أي وقت بالحدة نفسها التي أصبح عليها في وقت مبكر من العام 2017، عندما بدأ تشن كوانغاو، القائد الجديد للحزب الشيوعي في المنطقة، برنامجاً مكثفاً لترسيخ الأمن.
جلب السيد تشن إلى شينجانغ نظام الشبكة المكون من نقاط التفتيش، ومحطات الشرطة، والعربات المدرعة والدوريات المتواصلة، الذي أتقنه خلال خدمته السابقة في منطقة التيبت. ويعزو الحزب الشيوعي الصيني إليه الفضل في تهدئة مجموعة عرقية حرونة غير سعيدة بحكمه هناك. وخلال سنته الأولى في حكم شينجيانغ، جند السيد تشن عشرات الآلاف من أفراد الأمن الجدد.
وكما أفادت العديد من وسائل الإعلام، فإنه نشر أيضاً أدوات عالية التقنية لتكون في خدمة تكوين دولة بوليسية أفضل. وعلى سبيل المثال، يتم جمع عينات الحمض النووي DNA للإيغوريين خلال حملات فحص طبية تديرها الدولة. وتقوم السلطات المحلية الآن بتثبيت جهاز تعقب وتحديد موقع GPS في كل مركبة. ويجب تحميل تطبيقات التجسس الحكومية على الهواتف المحمولة. وتحظر السلطات برامج الاتصالات كافة باستثناء "وي تشات"، الذي يضمن وصولاً شرطياً إلى مكالمات المستخدم ونصوصه وأي محتوى آخر يقوم بمشاركته. وعندما يشترى الإيغوريون سكين مطبخ، فإنه يتم نقش بيانات بطاقة هويتهم على النصل لتكون بمثابة رمز للاستجابة السريعة.
هذه المراقبة الرقمية هي تجسيد حديث يذكرنا بالضوابط التقليدية لـ"الثورة الثقافية" في الستينيات والسبعينيات. ويتحدث بعض الإيغور عن دقات عملاء الأمن على أبوابهم مباشرة بعد تلقيهم مكالمة من خارج البلد. وفي الخريف الماضي، قال لي أحد الإيغوريين إنه في أعقاب العديد من مثل هذه الزيارات التخويفية خلال كل الصيف، كتب له والداه العجوزان رسالة نصية: "شاشة الهاتف سيئة لعيوننا المسنّة، ولذلك لن نستعملها بعد الآن". ولم يسمع منهما منذ ذلك الحين.
كما فرضت السلطات في شينجيانغ مؤخراً جملة من اللوائح ضد العادات الإيغورية، بما في بعض التعليمات التي تجافي كل منطق وحس سليم. فهناك قانون الآن يحظر أغطية الوجه -وكذلك اللحى "غير الطبيعية". وتم تخفيض رتبة رئيس حزب في قرية إيغورية لأنه لا يدخن، على أساس أن إخفاقه في ذلك يعني "التزاماً غير كافٍ بالعلمنة". كما قام المسؤولون في مدينة كاشغر، في جنوب غرب شينجيانغ، مؤخراً بسجن رجال أعمال إيغوريين بارزين عدة لأنهم لم يصلّوا بقدر كافٍ في إحدى الجنازات -وهي إشارة على "التطرف"، كما زعموا.
يمكن لأي مخالفة من هذا النوع، أو كون المرء ببساطة فناناً إيغورياً أو رجل أعمال ثريا، أن تفضي إلى اعتقال إلى أجل غير مسمى فيما تسميه الحكومة مجازاً "مراكز التدريب السياسي" -في إحياء لمعسكرات إعادة التعليم العقابية الماوية- المحروسة بالجدران العالية، والأسلاك الشائكة، والأضواء الكاشفة وأبراج الحراسة. ويقال إن رجل دين إسلامي إيغوري بارز مات في واحد من هذه المراكز في الأسابيع الأخيرة.
وفقاً لراديو آسيا الحرة، تلقى مسؤول في المقاطعة وشرطي في جنوب شينجيانغ تعليمات من مسؤوليهم بسجن 40 في المائة من السكان الإيغوريين المحليين. ويقدر أرديان زينز، الباحث في المدرسة الأوروبية للثقافة واللاهوت، أن 5 في المائة على الأقل من السكان الإيغوريين في شينجيانغ تعرضوا للاعتقال سابقاً أو محتجزون حالياً -أكثر من 500.000 شخص في المجموع. وتكتظ ملاجئ الأيتام المحلية بأطفال المحتجزين؛ ويقال إن بعض الأطفال يُرسلون إلى مرافق في الأجزاء الشرقية من الصين.
لماذا يتم إخضاع الكثير جداً من الإيغوريين لهذه السياسات القاسية؟ شرح مسؤول صيني في كاشغار: "إنك لا تستطيع اقتلاع كل الأعشاب المختبئة بين المحاصيل في الحقل واحدة واحدة -إنك تحتاج إلى رشها بالكيماويات لتقتلها كلها". ويبدو أن الحزب الشيوعي الصيني، الذي كان ذات مرة ليبرالياً تماماً في نهجه الخاص بالتعدد، يعيد تعريف الهوية الصينية في صورة الأغلبية من عرق الهان -ما قد تكون نسخته الخاصة من كراهية الأجانب التي تبدو كاسحة في الأجزاء الأخرى من العالم. ومع تعريف الاختلاف العرقي الآن كهديد للدولة الصينية، يشعر القادة المحليون، مثل السيد تشن، بالتمكين لاستهداف الإيغور وثقافتهم جملة وتفصيلاً.
لا يوافق بعض الناس في البيروقراطية الصينية والدوائر الأكاديمية الصينية على هذا النهج. ويخشى هؤلاء من أن يؤدي سجن محافظة بأكملها واضطهاد مجموعة عرقية كاملة إلى زرع مشاعر الاستياء طويلة الأمد بين الإيغوريين. أو يشيرون إلى أن سياسات السيد تشن مرهقة ومكلفة جداً حتى أنه سيكون من الصعب إدامتها: حيث يشتكي الصينيون من عرق الهان في شينجيانغ أيضاً من الانزعاج وكلفة العيش في مثل هذه الدولة البوليسية.
ثم هناك التداعيات الدولية. سوف يؤدي القمع الشامل في شينجيانغ فقط إلى إلحاق الضرر بمسعى الصين إلى كسب الاحترام العالمي، تماماً عندما تعرض سياسة إدارة الرئيس ترامب الخارجية الفوضوية فرصة لبكين لتحسين موقفها الدولي الخاص. وبغض النظر عن صورة الرئيس شي جين بينغ كمسؤول أممي في دافوس. لا شيء يمزق صورة القوة الناعمة في الخارج مثل لفائف الأسلاك الشائكة في الوطن.
هناك نكتة صينية قديمة عن براعة الإيغوريين كتجار ماهرين على طريق الحرير: عندما يترجل أول رائد فضاء صيني من سفينته الفضائية على القمر، سوف يجد إيغورياً موجوداً مسبقاً هناك يبيع كباب الضأن. وهكذا، حتى لو انقض السيد تشن على شينجيانغ، فإن الحكومة الصينية تسوِّق المنطقة على أنها بوابتها إلى مبادرتها التي تعلي من شأنها كثيراً، "حزام واحد، طريق واحد"، مشروع السيد شي الأبرز في السياسة الخارجية. وتجمع الفكرة الكبيرة بين خطة لإنفاق تريليونات الدولارات في شكل قروض تنموية واستثمار في النقل عبر منطقة أوراسيا، إلى سعي استراتيجي لترسيخ هيمنة الصين الدبلوماسية في آسيا.
ولكن، في حين تعِد حكومة الرئيس شي العالم بطريق حرير جديد عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط المسلمَين، تحاول السلطات في شينجيانغ احتواء "المشكلة الإيغورية" المزعومة عن طريق حبس الكثير من المواطنين الصالحين والتجسس عليهم من كل زاوية شارع وكل هاتف محمول. وهذا، تتعارض سياسات الحزب الشيوعي الصيني المحلية مع تطلعاته الدولية.
كيف يفكر الحزب بأن الأوامر والتعليمات التي تحظر الصيام في رمضان في شينجيانغ، وتطلب من محلات الإيغور بيع الكحول، وتحظر على الآباء المسلمين تسمية أبنائهم بأسماء إسلامية، سوف تبدو للحكومات والشعوب المسلمة من باكستان إلى تركيا؟ ربما تحسب الحكومة الصينية أن النقود يمكن أن تشتري القبول الهادئ من هذه الدول. لكن الآلاف من اللاجئين الإيغوريين في تركيا وسورية شرعوا مسبقاً في تعقيد الدبلوماسية الصينية.
يعرف أهل التبت جيداً هذا الوجه القاسي للصين. ولا بد أن أهل هونغ كونغ يتساءلون: إذا كانت الثقافة الإيغورية تُجرَّم، وحكم شينجيانغ الذاتي المفترض خدعة، فما الذي سيحدث لثقافتهم الكانتونية النابضة بالحياة ولترتيب دولتهم المهتز "دولة واحدة، ونظامان" تحت حكم بكين؟ ما الذي ستبدو عليه إعادة توحيد تايوان مع بر رئيسي محكوم بهاجس الأمن؟ هل ستلف دولة بوليس البيانات الكبيرة بقية الصين؟ وبقية العالم؟
بينما تكبر صورة الصين على الساحة الدولية، سوف يعكف الجميع على التساؤل عما إذا كان ما يحدث في شينجيانغ سوف يبقى في شينجيانغ.

*أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، ومؤلف: "مفترقات الطرق في أوراسيا: تأريخ لشينجيانغ".
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان:
 What It’s Like to Live in a Surveillance State
المصدر: http://alghad.com