جامع “عيد كاه” في “ياقوتة” طريق الحرير

  يقول المثل الشعبي لأهالي إقليم شنجيانغ(تركستان الشرقية)"من زار شنجيانغ ولم يزر كاشغر فكأنه لم يزرها، ومن وصل كاشغر ولم ير الجامع الكبير فكأنه لم يرَشيئاَ". في هذا المثل المتداول يحمل أهالي المنطقة بطاقة دعوة دافئة تبعث في نفسك الفضول والانجذاب إلى مكان لم تصله بعد.

تحمل مضامين الدعوة وتسير بذكرى مشبعة بتاريخ طريق الحرير البريّ إلى حيث شنجيانغ، وقبل أن تصل إلى "سقف العالم" هضبة البامير أم جبال الجليد، تأخذك دهشة الطبيعة فتوجه إلى ناظريك ملتقى قوافل طريق الحرير القديم في المدينة "الياقوتة" كاشغر كما ينطقها أبناء المنطقة، أو كاشي (كاشن) بنطق الصينية العامة.

ولكن أول ما يزعجك في هذا المشهد هو صراع هذه المدينة مع الحداثة، فرغم احتفاظها بالكثير من معالمها القديمة فإن المدينة تعاني من وتيرة التغيير التي ازداد تسارعها بشكل خاص بعد وقوع الزلزال المدمر في مدينة ونتشوان الصينية عام 2008، مع مراعاة الحفاظ على الثقافة المعمارية المميزة لأبناء المنطقة.

تبيت ليلتك في المدينة القديمة لتستيقظ على صوت أذان الفجر كما يفعل أهلها يوميا، حيث يخرجون إلى الشارع بهدوء جليل، تكاد لا تسمع منهم سوى وقع خطاهم وهم يحثون السير إلى المساجد تلبية لنداء الصلاة.

وبحسب تفاصيل الدعوة فلا تتوجه إلى أي مسجد من المساجد الكثيرة الموجودة في المدينة، فقط اسأل عن ميدان "عيد كاه" (آي تي غار) كما ينطق هناك، لتصل إلى مبتغاك وتدنو من "مكة الشرق الصغيرة" القلب النابض لمدينة كاشغر القديمة، والنموذج البارز لفن العمارة التقليدية لقومية الأويغور، وهو أحد أكبر المساجد في الصين بمساحة تبلغ أكثر من 17 ألف متر مربع.

وبالسؤال عن سبب التسمية، وجدنا أن اسم المسجد هو الجامع الكبير، وأما مصطلح "عيد كاه" فهو مزيج من أصول عربية وفارسية يستخدم للدلالة المكانية والزمانية على ممارسة طقوس الأعياد والاحتفالات، فهناك أربعة ميادين (عيد كاه) في إقليم شنجيانغ، إحداها في مدينة كاشغر. لكن تداول المصطلح بين أبناء المنطقة جعل الغالبية تظن أنه اسم للمسجد، لا سيّما أنه ميدان مفتوح للزوار وأكبر مركز للنشاطات الثقافية والتجارية للمسلمين في هذه المدينة، فبجانب هذا المسجد شارع مخصص لبيع الأعمال الفنية اليدوية والهدايا التذكارية كالأطباق الفضية والأباريق النحاسية المنقوشة والآلات الموسيقية المحلية.

الخصوصية التاريخية لهذا المسجد جعلت منه مقصدا هاماً في يوم الجمعة من كل أسبوع، حيث يتجمع فيه ما يتراوح بين سبعة إلى عشرة آلاف مسلم لأداء فريضة الجمعة. أما في عيدي الفطر والأضحى وغيرهما من المناسبات الإسلامية، فتكتظ قاعة المسجد وساحته الخارجية وكذلك الشوارع القريبة المحيطة بالمصلين الذين يصل عددهم في بعض الأحيان إلى مئة ألف شخص.

شنجيانغ - وتعني "الحدود الجديدة"- إحدى المناطق الخمس الذاتية الحكم للأقليات القومية في الصين، وهي منطقة القومية الأويغورية(تاريخيا تسمى تركستان الشرقية)، تحتل سدس مساحة الجمهورية الصينية وتقع في الجزء الشمالي الغربي منها، مما جعلها همزة وصل هامة بين الشرق والغرب من خلال طريق الحرير البري الذي يقطعها من شرقها إلى غربها.

في قلب مدينة أورومتشي -عاصمة شنجيانغ- عدد كبير من المساجد التاريخية التي أعيد بناؤها في السنوات الأخيرة، وفي الطريق إلى كاشغر الواقعة جنوب شنجيانغ تطالعك المساجد على جانبي الطريق بين حين وآخر، ففي كل قرية مسجد واحد على الأقل، مع وجود جامع كبير لصلاة الجمعة لكل مجموعة قرى، حيث يقدر عدد المساجد في شنغيانغ 24 ألف مسجد، بينها أكثر من ثمانية آلاف جامع كبير مناسب لأداء صلاة الجمعة.

وبحسب المصادر الصينية الرسمية كان يسكن في شنجيانغ 13قومية حتى نهايات القرن التاسع عشر تدين عشر منها بالإسلام وأكبرها قومية الأويغور، ولكن حاليا وتبعاً لمنظومة التوزيع الجديدة للقوميات (سياسة إعادة التوزيع الديمغرافي)، صار سكان شنجيانغ يمثلون 47 قومية من أصل 56 قومية صينية، وبواقع 23 مليون نسمة موزعة بين أبناء قومية الأويغور بنسبة 45% تقريبا و 40% لأبناء قومية الهان التي تمثل الأغلبية العظمى في الصين.

تشير المصادر التاريخية إلى أن الجامع الكبير لميدان "عيد كاه" بني 1442عام ، وقد استخدم القرميد الأصفر لبنائه، وتقع بجانب البوابة مئذنة ارتفاعها 18مترا، في أعلاها منصة صغيرة يرفع منها الأذان، وكان الجامع يتسع آنذاك لـستمئة مصل.

أقيم في الجهة الخلفية لساحة الجامع بناء على قاعدة ارتفاعها متر واحد تشكل قاعة الصلاة الرئيسية التي يحمل قبتها الخشبية البيضاء أكثر من 140عمودا بلون أخضر مزينة بنقوش زخرفية بديعة، كما نقش على السقف والجدران عشرات الزخارف بالجبس والألوان الزاهية. أما البوابة فيغطيها اللون الأخضر الخفيف وتزين أطرافها العلوية نقوش بديعة وآيات قرآنية بخط جميل، وعلى جانبها منارتان ترتفعان 18مترا، وعلى رأس كل واحدة منهما مجسم هلال. وتناظر هاتين المنارتين اثنتان أخريان فوق قبة قاعة الصلاة تبرزان السمة المعمارية الإسلامية. وقد لحق ميدان الجامع الكبير أعمال توسعة على مر السنين الطويلة، فبات يتسع لما يقارب عشرين ألفا من المصلين، وفي ساحته نمت أشجار باسقة تبدو للناظرين كحدائق غناء ومروج خضراء تهفو إليها قلوب الزائرين.

يقع الجامع الكبير لميدان "عيد كاه" في قلب كاشغر القديمة وسط شبكة من الشوارع والأزقة الملتوية، تشعر داخلها أنك في متاهة يصعب عليك تحديد اتجاهك فيها. ففي الطرف الشمالي الشرقي للمدينة يوجد شارع قديم يعتبر مركزا لتجمع أبناء قومية الأويغور، وتقوم على هذا الشارع بنايات بطول ثمانمئة متر يرجع تاريخها إلى مئات السنين، وتعتبر نموذجا حيًاّ لنمط العمارة وأسلوب الحياة لأبناء قومية الأويغور في كاشغر، حيث يتوارث أبناء الأويغور تلك البنايات جيلا بعد جيل، وكلما ازداد عدد أفراد الأسرة يبنى طابق جديد فوق البناية القديمة، فإذا كانت البناية لا تتسع لأفراد الأسرة، تبنى غرف أخرى جانبية يتم ربطها بالطبقة الثانية للبناية القديمة، الأمر الذي انتهى إلى تشكل منظر خاص لمبانٍ معلقة. كما أن وجود هذا النوع من البنايات جعل الشارع يتفرع إلى أكثر من خمسين زقاقا صغيرا.

اللافت في تلك الخارطة المعمارية المعقدة أن الأزقة معبدة بنوعين من الطوب، فالأزقة المعبدة بطوب سداسي الشكل تكون متصلة بالطرق الخارجية، أما الأزقة المعبدة بطوب مستطيل فهي مغلقة، وبذلك لا يستدعي الأمر أن تكون من أهل كاشغر لتكون أكثر دراية بشعابها.

أثناء تجوّلك في تلك الأزقة تشعر وكأن التلاميذ بأزيائهم المدرسية، والنساء بأزيائهن الإسلامية التقليدية والكهول والشيوخ بقبعاتهم البيضاء التقليدية، يعتبرون أزقتهم تلك هي العالم الذي يعيشون فيه ومن أجله، فلا تصرفهم عن حياتهم الهانئة والهادئة كل المباني الحديثة العالية وهي على بعد مئات الأمتار منهم فقط، فمدينتهم القديمة تضم الجامع الكبير لميدان "عيد كاه" والذي لا يعتبر مكاناًّ هاما للأنشطة الدينية في شنجيانغ فحسب، بل موقعا للتعليم الرئيسي للثقافة الإسلامية على مر العصور، تخرج منه العديد من الأئمة على مستوى شنجيانغ وآسيا الوسطى، وقد يكون ذلك هو السبب الذي تم من أجله إدراج هذا الجامع الكبير في قائمة التراث الثقافي الوطنية الصينية منذ العام2001.

الكاتب:

رافع أبو رحمة كاشغر

ملف العدد

مجلة الجزيرة أكتوبر2015