قالوا لنا إن المقاطعة الأولى من مقاطعات الصين كما يسمونها هنا التي سنزورها هي سنكيانغ ونقول هنا: إن ذلك حسب تسميتهم التي هي تسمية مستوحاة من هذا المعنى.
فهذه المنطقة الإسلامية ليست صينية ولا أهلها بصينيين فهم لا يعرفون اللغة الصينية قبل سيطرة الصينيين على بلادهم إلا كما تعرفها الشعوب البعيدة الغريبة، ودينهم هو الإسلام الحنيف ليس فيهم من لا يدين به، بل ليس في بلادهم من لا يتمسك به ويفتخر بذلك، وعنصرهم أيضًا تركي أصيل، وليس فيهم ولا لهم مما عند الصينيين من الخصائص العنصرية شيء.
ويفصل بلادهم عن بلاد الصين الحقيقية فاصل صحراوي أو شبيه بالصحراوي يؤلف حاجزًا طبيعيًّا أعظم من أكثر الحواجز التي تفصل بين كثير من الدول.
فهذه البلاد التي كان أسلافنا من العرب المسلمين يسمونها منذ أن عرفوها في القرن الأول للهجرة ومنذ أن فتحوا أهم مدنها في ذلك الوقت (كاشغر) على يدي القائد المحنك قتيبة بن مسلم الباهلي في عام 96 من الهجرة، وبعد ذلك كانوا يسمونها (بلاد الترك).
واستمرت هذه التسمية العربية (بلاد الترك) حية على مدى القرون في بطون الكتب العربية، وفي ذاكرة التاريخ الإسلامي، وإن كانت قد تحولت بالترجمة عندما ضعف نفوذ العربية في تلك الأقطار إلى اسم هو بعينه الاسم العربية القديم وهو (تركستان) ومعناها الحرفي (بلاد الترك) فـ(ستان): تعني بلاد بالفارسية وكلمة (استان) أصبحت معروفة الآن عند أكثر الناس في الوقت الحاضر من كثرة الأسماء التي ترد فيها مثل: (أفغانستان)، و(باكستان).
ولقد تلا ضعف اللغة العربية ضعف النفوذ الإسلامي في بعض البلدان التي يقطنها مسلمون بسبب الجهل بروح الدين، وركون المسلمين إلى بدع ومستحدثات لم تكن في السلف من الصالحين الأولين.
فنام المسلمون أو استناموا في الوقت الذي كان فيه غيرهم من الكافرين قد نهضوا وقاموا، فكانت نهضتهم هجمة على بلاد الإسلام ذهل لها المسلمون، ولكنهم لم يستطيعوا ردها أو صدها لأنهم لم يكونوا يملكون من القوة المادية والمعنوية ما يملك أعداؤهم من الروس والصينيين الذين أخذوا يتكتلون ويتجمعون كما تتجمع الثلوج على حدود بلادهم في الوقت الذي كان فيه المسلمون في كثير من أوطانهم يتفرقون، بل يتشتتون ويتشرذمون.
ولما صحا المسلمون في بلاد تركستان على أنفسهم وجدوهم نهبًا بين دولتين كافرتين كبيرتين إحداهما الروس والثانية: الصين أو وجدوا أنفسهم - على حد تعبير مبتغي بلاغة ليس هذا محلها - بين الدب والتنين!
أخذ الدب الروسي الصليبي الجزء الغربي منها، وضمه إلى ما ملكه من بلاد المسلمين التي انتهبها، وأخذ التنين الصيني الجزء الشرقي الباقي.
واستمر المسلمون يسمون بلادهم بتركستان الغربية - تحت الاحتلال الروسي - وتركستان الشرقية تحت الاحتلال الصيني.
وكان ذلك قبل أن يقع هذان الحيوانان الكبيران في هوة الشيوعية، وكان المسلمون في (بلاد الترك) هذه أو بعض المتفائلين منهم - على الأقل - يأملون في أن يأتي اليوم الذي يتخلصون فيه من هذه الشباك الصليبية الوثنية حتى حلت بهما الشيوعية، ففرض الشيوعيون على القسمين التركيين في كلا الجانبين ستارًا حديديًّا، وحصارًا (عقيديًّا) رافق ذلك عهد من الإرهاب والطغيان لم تعرفه البلاد من قبل صاحبه عهد من الشقاء والحرمان لم يذكر مثله تاريخ تلك البلاد.
حتى التسمية قد ضنوا على الإخوة المسلمين هناك بها قسمها الروس إلى جمهوريات اسمية، وخلعوا عليها أثوابًا شكلية ثم سموا الجميع ووافقهم ذوو النفوذ على ذلك أو ذوو النفوذ الثقافي والسياسي القوي في العالم فأسموها: (وسط آسيا) أو (آسيا السوفيتية).
أما الصينيون فقد سموا الجزء الشرقي منها (سينكيانغ)، ومعناها الحرفي: الأرض الجديدة المكتسبة، وجعلوها (مقاطعة) من مقاطعات الصين منحوها الحكم الذاتي، وأقاموا فيها من صنائعهم، بل من صناعتهم أشباحًا من الرجال وأشباه الرجال، فسموهم بأسماء رنانة ليس لها من المعنى إلا ما في الدف الفارغ الذي يكون عظيم الصوت، قليل الغناء في حكومة للمقاطعة أسموها (الحكومة الشعبية).
أما نحن - العرب المسلمين - الذين فتحوا هذه البلاد فتح قلوب، لا سالب لمسلوب، فقد نسيناها أو نسيها أكثرنا يستوي في نسيانها لدينا اسمها ومسماها، بل شكلها ومعناها؛ لأننا كنا قد ضيعنا بلادًا من بلاد الإسلام هي أقرب منها لبلادنا ونحن لها أكثر ارتيادًا.
بل كادت تركستان تموت حتى من ذاكرة تاريخنا المجيد، لا لأن التاريخ ذو ذاكرة ضعيفة يمحوها الزمن، ولكن لأننا لم تكن لدينا آذان تحب أن تنصت لذاكرة تاريخنا الحافل بالأمجاد.
وحتى أهلها قد نسيهم الناس لولا أن إخوة لهم ولنا أعزة كانوا قد خرجوا من بلادهم هذه بلاد الترك، فانطلقوا غربًا يفتحون ويحكمون، بل يحررون بلادًا من بلاد المسلمين كان قد اعتدى عليها المعتدون.
إلى أن أسماهم بعض المؤرخين بالترك العثمانيين لكي يفرق بينهم وبين الترك الأصلاء، وكانت لهم أسماء تركية عديدة وقد فتح الله بهم حتى (القسطنطينية) مركز الديانة النصرانية الشرقية التي كانت تخوف بلاد المسلمين وتهددها على الأيام، فأصبحت دار سلم وإسلام بعد أن كانت دار حرب وأصنام.
ولا أريد هنا أن أقص على القارئ الكريم قصة التاريخ القديم التركستاني؛ فأثير شجنه وأساه، أو أثير إعجابه بتاريخها القديم، وأثير معه مناه بأن تعود لها ولغيرها من بلاد الإسلام أمجادها التي ضاعت مع الأيام، فلا يغير ذلك من الحقيقة الواقعة الآن شيئًا إلا زيادة الحسرة والأسى.
فهذا الكتاب وبخاصة في هذا الفصل من حديث الرحلة والمشاهدات عن الجولة في تركستان ليس مكانًا لذلك وإنما مكانه - ملخصًا - سيكون في آخر الكتاب للتذكر والتدبر، وليس مطولًا مبسوطًا قصد به البحث والدراسة، فذلك له مكان غير هذا المكان، والله المستعان.
لقد سرت في تسجيل المشاهدات والملاحظات والحديث عما يتعلق بذلك كله على طريقة أخذت نفسي بها في كثير من أسفاري التي شملت أنحاء العالم، فسجلت ما رأيته أو سمعته مما يتصل بذلك في مذكرات يومية، ألفت هذه الأوراق عن تركستان التي ربما شفع لي في أن أخرجها في كتاب كون المعلومات عن تركستان قليلة، بل هي ضئيلة حتى فيما يتعلق بالأحوال المعتادة مثل المعيشة واللباس والعادات التي يراها الغريب.
ولذلك سميت الكتاب: (جولة في تركستان الشرقية تحت حكم الشيوعية)، وأرجو أن أكون قد ألقيت ضوءًا أو أضواء على هذه البلاد المسلمة المهددة بالاضمحلال، وعرفت شعبها المسلم العريق لإخوانه المسلمين بما اتسع له المجال.
المؤلف
محمد بن ناصر العبودي
جزء من مقدمة كتاب"جولة في تركستان الشرقية تحت الحكم الشيوعي"