نبذة مختصرة عن تاريخ تركستان الشرقية

 

  • الهون
  • كوك ترك
  • القراخانيون

   يسجل تاريخ الصين القديم بشكل مفصل أن الهون أجداد الأتراك هم الذين أسسوا إمبراطورية كبيرة في عام 210 ق.م في غرب الصين متمركزين حول جبال آلتاي وتنغري في تركستان الشرقية، وفي ذلك الوقت كانت أكثر من ثلاثين مدينة من المدن الكائنة داخل تركستان الشرقية تشكل القسم الغربي لهذه الإمبراطورية. وكان ورثتهم من كوك ترك يتحدثون بنفس اللغة في الهون. ولقد استمر حكم القسم الشمالي لإمبراطورية الهون حتى عام 93م، أما القسم الجنوبي منها إستمر حكمه حتى عام 221م.

 وبعد سقوط إمبراطورية الهون ظلت المدن مثل: ياركند، لوب، خوتن، كاشغر، كوتشا وتورفان التي كانت داخل حدود تركستان الشرقية كل منها مستقلة حتى عام 545م.

 وقام الكوك ترك – الذين هم عماد وأساس الجماعة التي كونها الهون – بتأسيس دولة (الكوك ترك العظمى) في آسيا الوسطى في عام 545م متمركزين حول جبال آلتاي في تركستان الشرقية، وبعد انقسام هذه الإمبراطورية إلى قسمين ظهرت في تركستان الشرقية دولة الكوك ترك الغربية وكانت عاصمتها آق داغ وامتد حكمها حتى عام 658م.

 وفي الفترة فيما بين 658م حتى 953م ظهرت دولتا تركش و القارلوق وهما من القبائل التي يرجع أصلها إلى الكوك ترك.

 وفي عام 880م ظهرت الدولة (القراخانية الأويغورية) باتحاد قارلوق و تركش و الياغما وسائر القبائل التركية، وكانت عاصمتها كاشغر.

ولقد أعقب حكم الدولة القراخانية، حكم القراخطاي التي هي إحدى القبائل التركية الوثنية والتي تمكنت من القضاء على الدولة القراخانية الغربية عام 1131م.

 وحكام دولة القراخانيين الذين حملوا لقب بغراخان هم: برهان، إيسين خان، ساتوق بوغراخان (وهو أول من أسلم من حكام الدولة القراخانية وتسمى ب عبدالكريم خان)، موسى، هارون، يوسف قديرخان).

 ويتضح من أن من أقاموا الحكم والسلطة في تركستان الشرقية في غضون الألف وأربعمائة وثمانية وعشرين عاما هذه التي امتدت فيما بين (210ق.م حتى 1218م) قد حققوا الاستقلال بمعناه التام للدول التي أسسوها كما فعل الأتراك.

  • سيادة حكم جغطاي وترك الدوغلات:

 بعد عام 840م تعاون الأويغور- الذين أسسوا دولة في المنطقة الشمالية لتركستان الشرقية عاصمتها تورفان- مع جنكيزخان ضد القراخطاي في عام 1209م؛ ولهذا زوج جنكيزخان إحدى بناته ل تورفان حاكم الأويغور لكي يأمن جانب الأويغور بالمصاهرة والنسب. ولم تدم دولة القراخطاي طويلا حتى قضى عليها جنكيزخان عام 1218م.

 وفي الحقيقة فإن هاتين الدولتين التركيتين الأويغور والقارلوق القراخانية اللتين خضعتا لجنكيزخان قد لعبتا دورا مهما في حروب الفتوحات التي قام بها المغول على العالم الغربي والصين، وبعد وفاة جنكيزخان ظلت هاتان الدولتان تابعتين لسيادة وحكم "آل جغتاي".

 وبمرور الزمن أصبح كل أهالي تركستان من الأتراك المسلمين. وهذا من جراء أن المغول الذين ينحدرون من سلالة "جغطاي خان" حاكم المملكة والذين كان عددهم قليلا جدا قد تتركوا(أصبحوا أتراكا) تاركين عاداتهم وأعرافهم ولغتهم الأم في عام 1322م، كما أنهم اعتنقوا الإسلام.

  وبالتدريج انتقل الحكم في القسم الغربي من تركستان من أيدي أمراء جغطاي إلى أتراك البدلاس وتبع ذلك ظهور الأمير الشهير تيمورلنك في تركستان الغربية في عام 1365م.

 ولأن تركستان الشرقية قد انضمت لإمبراطورية جنكيزخان كحليف لها؛ فإن حكام الأويغور والدوغلات قد تولوا بأنفسهم الإدارة.

 وفي عهد الجغطائيين، كان أمراء جغطاي يلقبون بلقب خانليق (أصحاب الحكم والسلطة) كرمز لهم، وفي عام 1514م إنتقل الحكم في تركستان الشرقية من يد سلالة آل دوغلات إلى الحكومة التركية (الأويغورية) الثانية التي عرفت باسم الدولة السعيدية وأعقب هذه الدولة حكومة ال خوجات التي استمر حكمها حتى عام 167م.

  • حكام الدوغات هم:

  مانغلاي سويا، بايدارخان، بولاجي بك، خوداداد خان، سيد أحمد خان، سيد علي ميرزا، محمد حيدر ميرزا، جهانكيرميرزا.

  • حكام الدولة السعيدية هم:

  سعيدخان، عبدالرشيد خان، أحمد خان، عبدالكريم خان، محمد خان، عبداللطيف خان، عبدالله خان، يولبارس خان، إسماعيل خان.

  • حكام مملكة الخوجوات هم:

 هداية الله خوجة، محمد أمين خان، أحمد خوجة، دانيال خوجة، باشاخان، يونس خان، برهان الدين خوجة، آل جهانكير خوجة.

 وفي الأربعمائة وواحد وأربعون عاما التي امتدت من عام 1218م حتى عام 1679م، كانت تركستان الشرقية في العهود الأولى حليفة لجنكيزخان، ثم بعد ذلك أصبحت تابعة اسميا لسلالة قوم جغطاي، وأخيرا أصبحت مستقلة تماما وهكذا حافظت على كيانها.

 

  • إجتياحات القالموق والمانجور والصين:

 

   في عام 1659م استولى آل قالموق وهم ينتسبون لقبيلة أويرات المنغولية على مناطق تورفان وأورمتشي وإيلي معتدين على عبدالله خان حاكم الدولة السعيدية الكائنة في تركستان الشرقية. وفي عام 1674م أقاموا (أي:القالموق) دولتهم المعروفة ب جونغاريا في هذه المنطقة التي استولوا عليها متخذين من وادي إيلي عاصمة لهم.

 وبسبب المنازعات الداخلية ظل القسم الجنوبي من تركستان الشرقية الذي حظي باستقلالية تحت إدارة وسلطة دولة القالموق لمدة ثمانية عشر عاما اعتبارا من عام1679م.

 إستولى آل مانجور الذين أسسوا إمبراطورية كبيرة في الصين على هذه المنطقة في عام 1758م مستغلين النزاعات الداخلية في دولة جونغاريا، وفي عام 1760م أغاروا على القسم الجنوبي للمملكة بجسارة مكنتهم من إحراز النصر، كما حارب الحكام المستقلين لهذه المنطقة وهم برهان الدين وأخوه واستولوا على أرضهم أيضا، وهكذا ظلت تركستان الشرقية تابعة لإمبراطورية مانجور مائة وثلاثة أعوام كاملة من 1760م حتى 1863م.

 وفي غضون هذه الفترة قامت تركستان الشرقية بتسع حركات عصيان وتمرد ضد الحكم المانجوري. وفي ثلاثة منها قامت القوات المانجورية بمحو وتطهير قسم كبير من المملكة.

 وفي النهاية حصلت المملكة على استقلالها بسبب حركات العصيان والتمرد العامة التي وقعت فيما بين عامي 1862-1863م وقامو بتأسيس دولة يعقوب بك ولاقت حكومة تركستان الشرقية المستقلة هذه شهرة وصيتا لدى الإمبراطوريات الإنجليزية والعثمانية والروسية التي تعد أكبر إمبراطوريات ذلك العصر.

 ولكن ثمة عقبة أليمة تنتظر دولة تركستان الشرقية المستقلة هذه، فقد انهارت الحكومة القومية التي استمرحكمها لمدة أربعة عشر عاما أمام هجوم واعتداء القوات العسكرية التي لا تعد ولا تحصى والتي أرسلتها إمبراطورية مانجور إلى المملكة في عام 1877م.

 وفي عام 1882م أصبحت إمبراطورية مانجور حاكمة ومسيطرة تماما على تركستان الشرقية وتحولت هذه الدولة إلى ولاية صينية عرفت ب ("شنجيانغ"، أي الأرض الجديدة أو المستعمرة الجديدة) ولقد استمرت سيطرة حكم مانجور على تركستان الشرقية حتى عام 1911م، ذلك العام الذي انهارت فيه إمبراطورية مانجور في الصين.

 وفي عام 1911م أسست حكومة صينية قومية على أنقاض سلالة مانجور البائدة في الصين. وعقب هذا وفي نفس العام تم إعلان الجمهورية التي شملت كل الدول التي كانت خاضعة لإمبراطورية مانجور المنهارة، وقد أعلنت رسميا الموافقة على أن يكون علم الجمهورية يضم خمسة ألوان تمثل الصينيين والمغول والتبت والترك والمانجور. وفي هذه الأثناء وجهت الدعوة لكل من منغوليا و تركستان الشرقية والتبت ومانجوريا للانضمام لجمهورية الصين التي أسست حديثا لتشكل دولة واحدة.

 ولكن على هذه الدعوة أعلنت كل دولة منهم إستقلالها الذاتي، فجاء استقلال منغوليا عام 1911م، والتبت في عام 1912م، و تركستان الشرقية عام 1933م، ومنجوريا في عام 1932م.

  أما تركستان الشرقية التي حكمها أمراء الحرب من عام 1911م حتى عام 1943م، فلم يكن لحكومة الصين المركزية أي سلطان عليها، فقد كان الحكام المحليون القائمون على تركستان الشرقية يعقدون الاتفاقيات التجارية والمعاهدات الأخرى مع المماليك الخارجية بشكل كامل دون الرجوع للسلطة أو بالأحرى فإن حكومة الصين المركزية لم يكن لها سلطة قط على تركستان الشرقية سواء من الناحية التجارية أو من الناحية العسكرية.

 

  • المحاولات الاستعمارية للصينيين على مر العصور:

 

  يدعي الصينيون أن تركستان الشرقية كانت خاضعة لنفوذ الصين وسيطرتها منذ ألفي عام. ويمكننا أن نلخص حقيقة الوقائع التاريخية التي يدعونها في هذا الشأن على النحو التالي:

  • عهد الخان الأول من 206ق.م حتى 24م :

إن الصينيين – الذين عانوا أزمات عصيبة من جراء وطأة الهون- قد أرسلوا صينيا يدعى (تشانغ تشن) كرسول وبرفقته ثلاثمائة رجلا لكل من الأوسون المستوطنين في إيلي واليوشي القاطنين في أفغانستان بهدف الاتفاق والاتحاد معهم وذلك في الأعوام 139، 121، 100 ق.م إلا أنهم لم يوفقوا في تحقيق آمالهم هذه.

 ولو كان الصينيون قد هاجمو مناطق لولان وتورفان الكائنة في تركستان الشرقية أثناء حروبهم مع الهون في الأعوام 99، 89، 64 ق.م لكان الهون قد تصدوا لهجومهم.

 عهد الخان التالي من 251م حتى 220م:

 عندما كانت الوحدات العسكرية للهون تحارب الصنيين الذين هاجموا مناطق تورفان و أورمتشي في الأعوام 72، 73، 76م، أرسلت دولة الصين في عام 72م صينيا يدعى بنتشاف وبرفقته ستة وثلاثين رجلا كرسول إلى مدن لولان وخوتن و ياركند بهدف تمزيق وتشتيت وحدة الهون.

وقد أتت مؤامرات بنتشاف بثمارها حيث كانت سببا في تمرد حاكم خوتن على إمبراطورية الهون، كما فتحت الطريق أمام مدن ك ياركند، كاشغر وكوتشا للتعرف على حكومة الصين.

 وبعد ثلاث سنوات أي: في عام 75م قامت حكومة الصين بإغلاق الطرق بين الصين وتركستان الشرقية، واستدعت بنتشاف إلا أنه لم يطع الأمر، وظل في خدمة حاكم خوتن، ولكنه عاد إلى وطنه في عام 101م.

  • عهد التانغ من 618م حتى 907م:

  قامت دولة الكوك ترك الشرقية – التي اضطرت أن تظل تحت حماية سلالة تانغ- باحتلال منطقة شمال تركستان الشرقية لمدة قصيرة معتدية على أتراك الكوك ترك الغربية الذن ينتسبون لنفس عرقها وسلالتها بالاتفاق مع الوحدات العسكرية الصينية في الأعوام 639، 645، 655 وهكذا ظلت هذه المنطقة خاضعة لنفوذ الصين وسيطرتها لأربعة أو خمسة أعوام، ثم وقعت منازعة هائلة بين الصين وتركستان الشرقية بسبب احتلال التبت ل قوقنور(مقاطعة جنخاي الصينية حاليا) في عام 660م. وأغلقت الطرق التي تصل تركستان الشرقية بالصين، وقام الصينيون للمرة الثانية بالهجوم على تركستان الشرقية والاعتداء عليها في الأعوام 788، 692، 746م إلا أن الترك وأهالي التبت والوحدات العسكرية المتدينة قد تصدت لهم وردت اعتداءاتهم.

 واعتبارا من هذا التاريخ حتى احتلال مانجور أي: حتى عام 1760م، لا يوجد ما يثبت قط أن القوات العسكرية الصينية قد وطأت أرض تركستان الشرقية مرة واحدة.

 وخلاصة القول: إن الصينيين في عهود أسرتي الهان والتانغ لم يستطيعوا أن يؤسسوا لأنفسهم حكومة في تركستان الشرقية بأي حال من الأحوال. وبناء على هذا فإن تركستان الشرقية لم تحتل من قبل الصينيين ولم تخضع لحمايتهم ونفوذهم قط في العصور السابقة.

 وعلى الجانب الآخر نجد أن الهون والكوك ترك قد نجحتا في تأسيس دول على حدود الأراضي الصينية بتيارات أعمق تأثيرا وأكثر استمرارا، ومع أن أسماء هذه الدول سواء كتبت باللغة الصينية أو بأسماء العشائر التركية إلا أنها لاتزال مقيدة ومتعارف عليها حتى في الكتب التي تروي تاريخ الصين ومنها:

  • إيلك جاف من عام304-414م، صورراقيجاف من319-352م.
  • باطي تشين من385-431م، إيلك ين من333-370م.
  • كوني لاينغ من397-414م، باطي لاينغ من397-439م.
  • دوغي في من534-550م، شا من407-431م.
  • قوزي في من338-376م، باطي في من535-556م.
  • دوغي في من534-550م، قوزي جو من557-581م.
  • تانغ من923-936م.

 ويعد الأتراك هم السبب وراء تأسيس إمبراطورية التانغ الكبيرة ويرجع الفضل للأتراك في تأسيس إمبراطورية التانغ العظيمة التي ساد حكمها في الصين منذ عام 618م، فبينما كانت إمبراطورية التانغ على وشك الانهيار التام في عام 762م بسبب النزاعات الداخلية، قام الأويغور بتخليصها وتحريرها من الخطر موطدين أقدام سلالة التانغ في الحكم والسلطة ومتفادين ومتصدين لحركات العصيان حتى إنهم قاموا بإنشاء المعابد المقدسة الخاصة بالديانة المانوية في أعوام 768، 807م بفضل الامتيازات والنفوذ الواسع اللذين حظيا بهما في ذلك العصر، كما أنهم نجحوا في نشر ديانتهم المانوية في الصين بكل حرية.

 ولقد كان للأويغور والقارلوق وكافة العشائر التركية دورا كبيرا وفعالا في نجاح المغول في الاستيلاء على الصين؛ ولهذا السبب فليس من المستغرب أن يتولى العديد ممن ينتمون لأصول تركستانية شرقية الحكم والإدارة كولاة على قسم مهم من الصين في عهد المغول.

 ومن المعلوم أن من بين من تولوا حكم الصين طوال هذا العهد أربعة عشر أويغوريا، وسبعة من القارلوق، وعشرين شخصا من المناطق المختلفة بتركستان الشرقية، كما أنهم كانوا يحتلون المناصب العليا كالولاية العامة والقيادة وخاصة في الصين الجنوبية فقد كان موظفو الحكومة والوحدات العسكرية ممن ينحدرون من أصول تركستانية شرقية.

 والحقيقة التي لايمكن إنكارها هي أنه على الرغم مما أنزله الصينيون بتركستان الشرقية من الاعتداء والاحتلال في غضون الألفي عام السابقة إلا أن نفوذ تركستان الشرقية على الصين كان أكثرإيجابية وفاعلية.

 

  • الحضارة القديمة لتركستان الشرقية:

 

  توضح الوثائق التي كشفت عنها الأبحاث التي أجريت في الآونة الأخيرة والمصادر الصينية القديمة وبعض الوقائع التي رصدها البحث الحالي أن تركستان الشرقية كانت صاحبة حضارة عظيمة على مرالتاريخ.

  فلقد وقف الرحالة الصيني تشانغ تشين حينما زار تركستان الشرقية 139 و121ق.م حائرا ومتعجبا أمام ما أحرزه أهلها من التقدم الكبير في الزراعة والري عن طريق شق القنوات الصغيرة المتفرعة من الأنهار، كما وجد في هذه البلد أنواعا شتى من الفاكهة والنباتات التي لم تعرفها الصين. وقد أخذ معه إلى الصين أكثر من عشرين نوعا مختلفا من بذور الفاكهة والنباتات. ولقد أطلق الصينيون أسماء أخرى على هذه النباتات والفاكهة التركستانية الأصل والمنشأ إلى جانب أسمائها الأصلية.

وفي عام 65م إتجه وفد مكون من عشرة أشخاص من الصين إلى خوتن وتعمقوا في دراسة الديانة البوذية واعتنقوها. وبعد عامين عادوا إلى وطنهم وأسسوا معبدا بوذيا كبيرا في لويانغ عاصمة الصين.

 وفي عام 399م وصل صيني آخر يدعى فاشن إلى خوتن عن طريق تورفان، ومكث هناك عشر سنوات. وبعد قيامه بالبحث والتدقيق في الديانة البوذية إتجه إلى الهند، ومنها إلى الصين في عام 416 م مرورا بكاشغر وخوتن مرة أخرى.

ولقد ذكر الرحالة السابق والرهبان الكثير عن الديانة البوذية في مدن كوتشا وخوتن في كتب الرحلات التي كتبوها بأنفسهم، كما أنهم تحدثوا بإسهاب عن أن أهلها كانوا نبلاء ورفيعي الأخلاق، مضيافين، متحضرين لدرجة كبيرة، كما كان بينهم الموسيقيون البارعون.

 واستطاع الإمبراطور الصيني تاي زونغ الذي تولى العرش في عام 626م أن يرسل باحثين متخصصين إلى تورفان حتى أصبحت بلاده على دراية كافية بفن صناعة الخمر.

 ولقد تحدث الرحالة الصينيون– الذين وفدوا لتركستان الشرقية في عهود دول الهون والتانغ- عن التقدم الهائل في الموسيقى هناك. كما وجدوا في كوتشا وتورفان مجموعات من الأوركسترا التي تشكلت من عشرين فردا وخمس عشرة آلية موسيقية من الآلات المختلفة، ووجدوا في كاشغر مجموعات موسيقية مكونة من إثني عشر فردا وعشر آلات موسيقية متنوعة، ولقد شرحوا بالتفصيل أسماء هذه الآلات الموسيقية ومواصفاتها وخصائصها في كتبهم.

  قدم الصينيان لي و جيانغ – وهما من موسيقي الصين المشهورين – تركستان الشرقية ودرسوا بها فن الموسيقى لفترة، وأخذوا معهم إلى الصين نماذج من آلات العزف التي عرفوها في تركستان الشرقية. كما أن التاريخ شاهد على أن الآلات الموسيقية لتركستان الشرقية كانت تستخدمها الفرقة الموسيقية في الجيش الصيني.

 بالإضافة إلى ذلك فإن الصينيين في باديء عهدهم قد تعلموا من الأتراك كيفية تقسيم الأرض. وتصنيف الرتب العسكرية والمدنية وأشكالها وكيفية صهر الحديد واستخدامه وطرق التدريبات العسكرية ووضع خطط الحرب التكتيكية. كما كانت تركستان الشرقية هي السبيل الذي مهد لانتشار المعتقدات البوذية والنسطورية والمانية والدين الإسلامي في الصين.

  وفي أثناء زيارة الوفد الذي أرسله جستنيان الثاني إمبراطور بيزنطة لدولة الكوك ترك الغربية برئاسة زماك هوش في عام 568م، والذي مر أيضا بإمبراطورية الكوك ترك في آق داغ الواقعة شمال مدينة كوتشا قد أوضح في تقريره تقدم الحدادة تقدما هائلا عند الكوك ترك، وصناعة الأتراك للآلات الموسيقية المعروفة في الأسواق الأوربية كما أنهم يصدرونها لتباع في الغرب. وأثنوا على دولة الكوك ترك باعتبارها أقوى دول آسيا وأرقاها ذوقا في تصنيع أدوات الزينة والحلي التي رأوها في إمبراطورية تركستان الشرقية والتي لاتختلف تماما عن تلك التي في قصور بيزنطة من حيث الجمال والفخامة والجودة.

 

  • آثار أورخون:

 

  تعد منطقة أورخون مركزالثقافة الأول للأتراك، ونحن على يقين من أنه بعد مرور ثلاثمائة عام على تشييد الآثار التاريخية الموجودة بها تم نقلها هي ومركز الثقافة التركي هذا إلى كاشغر.

 ففي عام 734م أمر بيلغة كاغان حاكم الكوك ترك الشرقية بتشييد نصبين تذكاريين مزينين بالكتابات المزخرفة الجميلة والرسومات المنقوشة في مرتفعات أورخون. أحدهما شيده لنفسه والآخر شيده أخوه كول تكين وذلك في عام732م. ولقد كانت صحة تكوين العبارات التي تتضمنها هذه الكتابات وملائمتها لقواعد الإملاء الصحيحة خير دليل على أن المرحلة التكاملية لخط أورخون قد سادت بين الأتراك لآلاف السنين.

 

  • كتاب السعادة وديوان لغات الترك:

 

  ويعد كتاب السعادة – الذي ألفه يوسف خاص حاجب بالحروف الأويغورية في كاشغر بعد مرور ثلاثمائة عام على تشييد الآثار التذكارية الأورخونية – تحفة فنية وأدبية للتركية الخاقانية التي تعد الأفضل والأكثر تميزا بين اللهجات التركية من حيث الفصاحة والسلامة اللغوية والبلاغة، كما كتب محمود الكاشغري في عام 1072م ديوان لغات الترك الذي يعد تحفة ذات قيمة عالمية في علوم اللغة والتاريخ والجغرافيا.

 

  • مستشارو جنكيزخان الأويغور:

 

  عندما أرسى جنكيزخان دعائم إمبراطورية المغول الكبيرة في مغولستان أخذ يوطد علاقته بالأويغور والقارلوق، كما تبنى المغول حضارتهم وثقافتهم وكتبوا بأبجديتهم وبالخط الأويغوري. ولقد أديرت أعمال الحكم والسلطة في دولة المغول بمساعدة القضاة والمستشارين الأويغور.

 

  • التنقيبات الأثرية:

 

 أصبح من المعلوم أن العديد من المستشرقين الأوربيين أمثال: السيد بور، د.فونلي جوك، د.دي رينيه، د.أورال ستاين، د.سفن هيدن، أ.د.كليمنليس قد وجدوا في تركستان الشرقية حفريات ترجع لزمن طويل، كما يرون أن تركستان الشرقية تعد أرضا خصبة للعديد من الدراسات والأبحاث العلمية. ومن هؤلاء المستشرقين د.رينيه الذي اكتشف لوحة كتابية ترجع إلى ما قبل ألفي عام محفورة على القشرة الخارجية لشجرة زان في خوتن في عام1893م. كما أجرى أ. أورال ستاين التنقيبات والأبحاث ثلاث مرات في تركستان الشرقية. وفي أول مرة عاد باثني عشر صندوقا تضم مجموعة من الأعمال الأثرية المتنوعة، أما في المرة الثانية فقد عاد بستة وتسعين صندوقا. ولقد أسفرت هذه التنقيبات والأبحاث الأثرية عن وجود الكثير من الوثائق التاريخية القيمة في كوتشا، لوب، خوتن، تورفان وغيرها من المدن. وكذلك كشفت تلك الأبحاث عن الآثار الباقية من المدن القديمة والصور القديمة والعملات المعدنية والكتابات واللوحات الأثرية الجميلة والمنمنات.

 

  • مهد حضارة آسيا تركستان الشرقية:

 

  كان طريق الحرير الشهير الذي يربط بين العالم الشرقي والغربي في العصور المتأخرة التي تمكن التاريخ من تدوينها يمتد من تركستان الشرقية متفرعا إلى ثلاث إتجاهات. وكان هذا الطريق بمثابة أول جسر من جسور التماس والاحتكاك بين حضارات الشرق والغرب. وعندما نضج تأثير الحضارات المتقدمة التي تلقتها هناك متخذة أشكال التغير، كان قد توسع وانتشر صداها في كافة الأنحاء. ومما لاشك فيه أن حضارة تركستان الشرقية كانت قد تقدمت وتطورت سريعا على بعض مقومات حضارات الغرب والشرق.

 وعلى الرغم من أن الكوريين واليابانيين لم يكونوا على صلة وثيقة بالصين في العصور الأولى، كما أنهم لم يكونوا على مقربة من صاري(النهرالأصفر) الذي هو مهد حضارة الصين إلا أنهم لم يجدوا صعوبة بأي حال من الأوحوال في قبول ثقافة الصين وانبهروا بروعتها في الحال حيث أصبحوا متقبلين الكلمة والكتابة المكتوبة باللغة الصينية، ولاتزال منطقة جنوب شرق الصين تسكنها حتى يومنا هذا القبائل والعشائر التي تنحدر من أصول ترجع إلى جنوب شرق آسيا، كما شهدت هذه المنطقة إستقرار هذه القبائل مع الصينيين وقبولهم لثقافة الصين وقيمها.

  ولكن عرف أهالي تركستان الشرقية – الذين استقروا في المناطق القريبة من النهر الأصفر منذ آلاف السنين- والذين كانوا في حالة احتكاك محكم مع الصين والذين ظلوا تحت وطأة سياسة التصيين الصارمة والاعتداءات الصينية المتكررة على مر التاريخ- كيفية الحفاظ على تركيتهم حتى يومنا هذا، كما أنهم جعلوا من السمات الثقافية والحضارية الخاصة بهم ساترا وحاجزا واقيا لهم من كافة ما تعرضوا له.

 

  • المكائد والمؤامرات التي دبرت عبرالتاريخ:

 

 إن هذه الدولة التي اشتهرت بكونها منبع الحضارة التركية ومهد الترك على مر التاريخ يجب أن تستند عدم عودتها إلى ديارها المجهولة إلى إدارة مانجور في العصور المتأخرة، وإلى الأعمال المنفرة والفظيعة للإستبداد الصيني الذي أعقبها. فلم يكن للسكان المحليين الحق في شغل المناصب فقد قطعت علاقتهم بالعالم الخارجي وقد تبع ذلك عمليات التصفية والتنكيل بكافة أصحاب الفكر والشعور القومي حتى أن الرعيل الأول من أهالي تركستان الشرقية – الذين أطلق عليهم المستعمرون إسم "شينجيانغ" باللغة الصينية – قد تمت مخاطبتهم باسم مستعار وهو جنتو بالصينية، أي بمعنى المعمم حتى فقدوا قدرتهم على تذكر الأسماء الحقيقية لهم. وبعد استيلاء مانجور على مؤسسات تركستان الشرقية كالمدارس والصحف والمستشفيات التي تمثل تاريخ الأمة وتراثها ظلت تلك المؤسسات مغلقة حتى عام 1935م، كما هدم الصينيون كل الآثار القومية التي تذكر بالتاريخ المجيد لهذه الأمة فقد حولوا البلاد إلى خراب بحطامها وأنقاضها، حتى إن رجال العلم ومجموعة من الباحثين الغربيين الذين لم يقفوا على الماضي المشرف لتركستان الشرقية والذين عاصروا فقط عصور ضعفها وأسرها قد تفجعوا ألما من حالة الجهل والفقر التي عمت هذه البلاد، فقد كانت تلك الأرض هي التربة الخصبة لمفهوم الحضارة والثقافة التي حرموا منهما، وربما كانوا محقين في أن يولوا لها كل هذا الاهتمام.

 

 بولات تورفاني

مؤلف كتاب"تركستان الشرقية تحت الاحتلال الصيني"