الطريق إلى أورومتشي.. أحاديث على الهامش

  لم يكن متاحا في ظل التشديد الأمني الصيني الدخول إلى مدينة أورومتشي كزائر، وكان من المستحيل بطبيعة الحال الذهاب كصحفي، لذلك لم أجد سبيلا سوى الدخول كسائح ضمن مجموعة من السياح الصينيين الذين يتوافدون إلى المدينة في إطار البرامج السياحية التي تطلقها العديد من المكاتب المختصة بتنظيم الرحلات الداخلية في الصين.

لم يجل في خاطري طوال مدة الرحلة التي استغرقت خمس ساعات ونصف الساعة بالطائرة سوى البحث عن طريقة أستطيع أن أتواصل فيها مع سكان المدينة بعيدا عن العيون الأمنية للحديث حول همومهم ومشاكلهم، وأنا الذي لاسلطة لي حتى على وقتي بينهم، كوني أسير برنامج سياحي لا يرى في أورومتشي سوى أطلالها المبعثرة.

فور وصولنا إلى مركز المدينة إجتمع حولنا نفر من أبناء قومية الأويغور صغار السن، وكان لي نصيب الأسد من الحفاوة الأويغورية كوني الأجنبي والمسلم الوحيد بين أفراد المجموعة.

لم تمض لحظات حتى سمعت تمتمات باللغة العربية وقعت على أذني كطوق نجاة من شاب وسيم يدعى صالح، ألقى علي التحية، وقدم نفسه كمترجم، ولأن القائمين على برنامج الرحلة لا يوفرون مترجمين لأنه قلما تضم مجموعاتهم سياحا أجانب وافقوا على اصطحاب المترجم لي بشرط أن يكون ذلك على نفقتي الخاصة.

كان صالح شابا مثقفا مهذبا، وعلى قدر ما كان خلوقا وخدوما كان أيضا بارعا في الهروب من الإجابة عن أسئلة لم يعتد على سماعها من سائح، وفي حقيقة الأمر لم أكن أبحث عن إجابات مباشرة في دردشتي الطويلة معه بقدر ما كنت أبحث عن هامش أمان في شخصيته قبل إطلاق العنان لغريزتي الصحفية.

بعد خمس محاولات باءت جميعها بالفشل تمكنت أخيرا من إجراء الحوارالأول مع أحد الباعة في سوق أورومتشي المركزي والذي اشترط عدم ذكر اسمه في التقرير.

كانت اللقاءات قصيرة ومحدودة، وكانت تتم في الفترات التي أتذرع فيها بالذهاب إلى بيت الخلاء لقضاء حاجة لكي لا يلاحظ القائمون على برنامج الرحلة أني أقوم بعمل مخالف للضوابط التي تم إبلاغنا بها قبل الإقلاع إلى أورومتشي، خصوصا أن جميع المرافقين لي من قومية الهان التي تدين بولائها للسلطة الحاكمة.

روى سليمان- إسم مستعار- كيف تمارس السلطات الصينية سياستها العنصرية في إقليم شنجيانغ، وكيف تنحاز في العطاءات وفي توفير فرص العمل لصالح التجار الصينيين من قومية الهان الذين تم توطينهم في الإقليم على حساب التجار الأويغور، وكيف لا يسمح لهم بتصدير المنتجات والأطعمة الحلال إلى المقاطعات الصينية الأخرى التي تتواجد فيها قوميات مسلمة، مما يؤدي إلى كساد هذه المنتجات فيضطرون لبيعها بثمن بخس.

وكان الحوار الثاني مع أيوب(38عاما)الذي قابلته في سرداب أسفل بيته، وكان أكثر الشخصيات التي إلتقيت بها حماسة، إذ لمست فيه رغبة جامحة بالحديث عن الاضطهاد الديني والثقافي الذي تتعرض له أقلية الأويغور، وعن الإجراءات القمعية التي تمارسها السلطات الصينية في الإقليم.

وقد عزا صالح ذلك إلى اعتقال قوات الأمن ابن أخيه الذي لا يتجاوز ال 15 من عمره أثناء اقتحامها أحد مراكز تحفيظ القرآن في المدينة، وأشار صالح إلى أن السلطات الصينية قامت بمداهمة العديد من المراكز الدينية خلال العامين الماضيين بحجة أنها مراكز غير مرخصة تحث الأطفال على العنف والحقد والتطرف.

أما الحوار الثالث والأخير في مدينة أورومتشي فكان مع أحد الأئمة المفصولين من عملهم وهو الشيخ عبد الرحمن (64عاما) الذي حدثني عن أسباب فصله من المسجد الذي كان يؤم المصلين فيه قائلا إن الإدارة المحلية في المنطقة قامت منذ بداية العام الماضي بتسريح كل الأئمة الذين ينتمون لقومية الأويغور، والإتيان بأئمة جدد ينتمون لقومية"هوي"الصينية المسلمة التي لا تكن عداء للصين، كونها لا ترى في الوجود الصيني بإقليم تركستان الشرقية احتلالا.

وتحدث أيضا عن منع ارتداء النقاب الذي يغطي كامل الوجه، ومنع المسلمات المحجبات والشباب الملتحين من ركوب الحافلات، مما تسبب بفقد العديد منهم وظائفهم، لعدم تمكنهم من الذهاب إلى أماكن عملهم البعيدة.

وتحدث أيضا عن قانون حظر الصيام الذي لم يقتصر على الطلاب والمدرسين وموظفي الدولة كما أشيع في الإعلام، وأكد أن الحظر شمل كافة سكان الإقليم.

وحين استشهدت بتصريح المتحدثة باسم الحكومة الصينية في إقليم شنجيانغ والتي قالت"إن الصين لم تمنع المسملين من الصيام، وإن الغاية من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة بهذا الشأن التأكيد على الحاجة للاستمرار في الذهاب إلى العمل والقيام بالواجبات المعتادة في نهار رمضان".. انفعل الإمام عبد الرحمن، وتساءل: إن كان هذا الكلام صحيحا فلماذا كانت قوات الأمن الصينية تتفقد البيوت المضاءة في وقت السحور؟ ولماذا كان يتم الاعتداء على الأسر الفقيرة الصائمة التي لا تملك أصلا وظائف؟

فاجأني أحد الذين تحدثت إليهم بهم بإعطائي صورة للمفكرالأويغوري إلهام توختي الذي يقضي عقوبة السجن مدى الحياة بتهمة السعي لانفصال إقليم تركستان الشرقية عن الصين، وطلب مني أن أثير قضيته في وسائل الإعلام ظنا منه أنه يشيع سرا، موقف صغير يشي بمستوى العزلة التي وصل إليها سكان المدينة.

ولم يكن غريبا في ظل السياسات القمعية التي تمارسها السلطات الصينية في الإقليم عدم سماع أصوات تنادي بالانفصال، وهذا يشير إلى نجاعة السياسة الصينية التي نجحت في تحويل السكان الأصليين إلى أقلية باتباع خطة التهجير والإحلال، ومن ثم إغراق الأقلية بالتفاصيل التي تتعلق باحتياجاتها الأساسية كالغذاء والدواء والرعاية الصحية.

الكاتب: علي أبو مريحيل

كاشغر

ملف العدد لمجلة الجزيرة2015