الصين.. وماذا بعد؟

تسعى الصين بقدر إمكاناتها والظروف المواتية لها أن تخرج من السجن الاستراتيجي الأميركي (غيتي)

رافع العرواني

يقول دينغ شياو بنغ: "ليس مهمًا لون القط، المهم كم فأرًا يستطيع أن يصطاد".. لولا هذه الكلمات القليلة لما كانت الصين التي نراها اليوم، الصين التي يتحدث عنها كل مثقف وباحث في هذا العالم، الصين التي تشغل أروقة السياسة داخل أهمّ دولة في الكوكب، ألا وهي أميركا.

هذه الكلمات القليلة كانت بمثابة إعلان رسمي من قبل الزعيم الصيني آنف الذكر بسقوط الاقتصاد الاشتراكي المنغلق المركزي، حتى قبل أن يسقط الاتحاد السوفياتي بأكثر من عقد كامل، وانتهاء الحرب الباردة بانتصار مؤزر للنموذج الديمقراطي الليبرالي.. بدأ التطبيق على أرض الواقع، ورمى الصينيون "الماوية" في "سلة مهملات الأيديولوجيا" بكل ما فيها من شعارات دوغمائية وأصولية وانغلاقية.

انفتحت الصين على الغرب، وتدفقت مئات المليارات إليها على شكل استثمارات أميركية وألمانية وفرنسية، ومن دول غربية أخرى، مستفيدة من اتساع السوق الصيني، ووفرة الأيدي العاملة، وقلة أجورها

بدأ تحسين العلاقات مع الجيران الكبار، كالهند واليابان، وأصبحت العلاقات معهم قائمة على أساس المصالح المشتركة والتعاون الاقتصادي. أما مع الغرب – وعلى رأسه أميركا – فقد تم التغاضي عن المسألة التايوانية، وعن الخلافات الأيديولوجية العميقة بين الفريقين، لا بل إن الصين لم تقحم أنفها في أي منطقة صراع تمسّ المصالح الأميركيّة.

أدى ذلك كله في أواخر السبعينيات، وتحديدًا في يناير/ كانون الثاني 1979، إلى إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين الصين وأميركا بعد سنوات من الاتصالات واللقاءات السرية والعلنية.. بدأت عام 1971 في عهد "ماو تسي تونغ" نفسه.

انفتحت الصين على الغرب، وتدفقت مئات المليارات إليها على شكل استثمارات أميركية وألمانية وفرنسية، ومن دول غربية أخرى، مستفيدة من اتساع السوق الصيني، ووفرة الأيدي العاملة، وقلة أجورها.

حققت الصين نسب نمو مذهلة منذ بدئها الإصلاح الاقتصادي والانخراط في اقتصاد السوق الرأسمالي، القائم على التنافسية والاستثمار ومبدأي العرض والطلب عام 1978. ففي عام 1988، مثلًا، حققت الصين نسبة نمو بلغت 11.3%، وفي عام 1992 حققت نسبة نمو بلغت 14.2%، وهكذا دواليك.

واليوم، ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وعلى أعتاب نصف القرن من بداية المعجزة التنموية الصينية، نرى الصين تمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهي الرائدة رقم واحد في كميات الإنتاج داخل الكثير من قطاعات الصناعة، ويجب ألا ننسى أننا نتحدث عن الصين الدولة النووية، وصاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن.

ولكن هل كل هذا كافٍ حتى الآن لنقول إن الصين قادرة على تنحية أميركا عن عرشها، بل وحتى هزيمتها على أقل تقدير؟ الجواب لا وألف لا.. لقد بنت أميركا أنموذجًا سيدرس لمئات السنين القادمة في كيفية تأمين الدول العظمى سيطرتها العالمية.

الصين يحكمها الحزب الشيوعي، والشيوعية ظهرت في الغرب، واقتصادها رأسمالي بالغالب الأعم، وأيضًا الرأسمالية ظهرت في الغرب، وطرق الصناعة والإنتاج كذلك ظهرت في الغرب

يرى العالم منذ عقود أساطيل أميركا السبعة وهي تتمركز في بحار العالم ومحيطاته، رأى العالم كيف أمنت أميركا مصالحها في منطقتنا (الشرق الأوسط) – أهم منطقة جيوسياسية في العالم – من خلال أسطولَيها الخامس والسادس، ومن خلال قواعدها العسكرية وعلاقاتها المتجذرة مع قوى إقليمية كبرى، مثل: مصر، وتركيا، والسعودية.

إستراتيجيًا، جلّ ما تستطيع الصين أن تفعله هو أن تؤمن مجالها الحيوي بما لا يضر أمنها القومي بشكل مباشر، هذا ما يسمح لها به الوضع العالمي الناتج من حربين عالميتين وحرب باردة، انتهت جميعها بانتصار ساحق للديمقراطيات الغربية.

إن الحضارة بأسرها في القرون السبعة الأخيرة تدور في كنف المركزية الغربية، بخيرها وشرها وصالحها وطالحها؛ فما نهضت أمة غير غربية إلا بعد أن انفتحت على الغرب وجارتْه سياسيًا وقانونيًا وعلميًا وصناعيًا واقتصاديًا؛ فالصين يحكمها الحزب الشيوعي، والشيوعية ظهرت في الغرب، واقتصادها رأسمالي بالغالب الأعم، وأيضًا الرأسمالية ظهرت في الغرب، وطرق الصناعة والإنتاج كلها ظهرت في الغرب.

ماذا قدمت الصين في مجال العلوم الإنسانية والتطبيقية؟ ماذا قدمت في الفنون والآداب؟ ماذا تملك الصين لكي تسحر الشاب الطموح في العالم الثالث، والذي يطمح للهجرة والإبداع؟ هل لدى الصين إمبراطورية فنية كهوليود؟ هل لدى الصين ماكينة إعلامية كتلك الموجودة في أميركا؟ هل لديها مشاهير في عالم السينما والغناء والأزياء والصحافة والأعمال والرياضة، يستطيعون مخاطبة المراهقين والشباب؟

نعود إلى الإستراتِيجَيَا والجيوبوليتيك، فنحن نرى في عالمنا الحالي أن الصين محاطة في ساحلها الشرقي المطل على المحيط الهادئ بـ 293 قاعدة عسكرية أميركية من اليابان وكوريا الجنوبية شمالًا إلى أستراليا جنوبًا؛ إذ يتركز في اليابان الأسطول الأميركي السابع، أهم أساطيل أميركا وأكبرها، والمتكفل بتغطية المحيطين: الهادئ والهندي، وتأمين المصالح الأميركية هناك.

تقف أميركا بالمرصاد ضد الطموح الصيني، إذ أعرب وزير الدفاع الأميركي "لويد أوستن" عام 2022 في منتدى ريفان للدفاع الوطني بكاليفورنيا، عن طموحات الصين في تشكيل نظام عالمي جديد يخدم مصالحها بالمقام الأول، وأكد أن واشنطن "لن تسمح بذلك"!

تسعى الصين بقدر إمكاناتها والظروف المواتية لها أن تخرج من هذا "السجن الإستراتيجي الأميركي" حولها؛ فقد أنشأت أول قاعدة عسكرية لها في جيبوتي عام 2017، وركزت فيها قطعًا بحرية قليلة لتأمين المصالح فقط، لتتجنب استثارة أميركا وحلفائها، وقامت بإنشاء ميناء "هامبانتونا" في سريلانكا، مع حق انتفاع مدته 99 عامًا، واستثمرت مبلغ 659 مليون دولار ببناء ميناء" باتا" في غينيا الاستوائية، ناهيك عن قاعدة "ريام" في كمبوديا، والتي لم تكتمل بعد.. كل هذا يمنح الصين مزايا استخباراتية وجيوسياسية، ويقلص الهوة قليلًا مع التفوق الأميركي الكاسح.. ولكن ثم ماذا يا صين؟

تقف أميركا بالمرصاد ضد الطموح الصيني، إذ أعرب وزير الدفاع الأميركي "لويد أوستن" عام 2022 في، "منتدى ريفان للدفاع الوطني" في كاليفورنيا، عن طموحات الصين في تشكيل نظام عالمي جديد يخدم مصالحها بالمقام الأول، وأكد أن واشنطن "لن تسمح بذلك"!. قد يكون شكل عالمنا الآن شبيهًا بشكل العالم قبيل الحرب العالمية الأولى، فما عليك إلا أن تزيل بريطانيا العظمى وتضع مكانها أميركا، وتزيل ألمانيا القيصرية وتضع مكانها الصين.. ولكن هذا تصور في غاية الإجمال، بل وقد يُنشئ عند القارئ غير المتعمق بعض التطورات الخاطئة، وتفصيل ذلك في غير هذا المقام.

ختامًا، من حق أي أمة أن تسعى نحو الزعامة والريادة بكل ما تملك من إمكانات وظروف مواتية لخدمة أهدافها ومصالحها، ولكن هذه الأحلام سرعان ما تصطدم بصخرة الواقع، الواقع الذي يقول لنا إنه ليس من السهل أن تزعزع إرث أميركا الهائل المتمثل بخروجها قوية منتصرة من الحرب العالمية الثانية، ثم من الحرب الباردة، ناهيك عن الشق الحضاري الذي تحدثت عنه خلال هذه التدوينة.

قد يأتي يوم تنافس فيه الصين أميركا من الناحية الجيوبوليتيكية كما فعل الروس في الحرب الباردة – وهو يوم بعيد جدًا – ولكن من الناحية الحضارية فهيهات هيهات أن تستطيع الصين أو غيرها الخروج من عباءة الغرب.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


رافع العرواني