مقدمة: مأساة صامتة في قلب آسيا
في القرن الحادي والعشرين، حيث تتسابق وسائل الإعلام لتغطية انتهاكات حقوق الإنسان حول العالم، تبقى مأساة تركستان الشرقية (تحتلها الصين منذ 1949 م وتسميها "شينجيانغ") إحدى أكثر المآسي المعاصرة التي تحظى باهتمام متواضع مقارنة بحجمها. يعيش الأويغور وغيرهم من الأقليات المسلمة تحت وطأة سياسات ممنهجة تستهدف محو هويتهم الدينية والثقافية واللغوية، في ظل صمت مطبق من معظم العالم الإسلامي - حكومات ومؤسسات دينية وشعوباً.
هذا الصمت ليس مجرد غياب للدعم، بل تحول في كثير من الأحيان إلى تواطؤ صريح، حيث نرى قادة دول إسلامية يتسابقون للثناء على الصين والتوقيع على اتفاقيات اقتصادية ضخمة، بينما يتجاهلون تماماً معاناة إخوانهم في الدين.
الازدواجية الصارخة في المواقف الإسلامية الرسمية
تبرز المفارقة المؤلمة عندما نقارن ردود الفعل الإسلامية الرسمية تجاه قضايا مختلفة. فالدول الإسلامية التي تنتفض غاضبة لأدنى إساءة للإسلام أو الرسول الكريم في كاريكاتير غربي، هي نفسها التي تصمت صمتاً مطبقاً عندما يُمنع الأذان في تركستان الشرقية، وتُهدم المساجد التاريخية، ويُمنع الصيام، ويُجبر المسلمون على شرب الخمر وأكل لحم الخنزير.
وفي الوقت الذي تقام فيه المؤتمرات والاجتماعات العاجلة لنصرة قضايا إسلامية أخرى، لم نشهد اجتماعاً واحداً لمنظمة التعاون الإسلامي مخصصاً لبحث معاناة مسلمي تركستان الشرقية. بل إن بعض الدول الإسلامية وقعت على رسائل دعم للصين في سياساتها بحق الأويغور، مبررة ذلك بأنها "إجراءات لمكافحة الإرهاب والتطرف".
المؤسسات الدينية: بين الصمت والتبرير
المؤسسات الدينية الرسمية في العالم الإسلامي، التي تُعتبر المرجعية الروحية والأخلاقية للمسلمين، أظهرت عجزاً مؤلماً في مواجهة هذه القضية. فالمؤسسات التي تصدر فتاوى في أدق تفاصيل الحياة اليومية للمسلمين، وتجتهد في تحريم بعض الأفلام أو الأغاني، تصمت صمتاً مطبقاً عن انتهاكات صارخة لحرية العقيدة الأساسية.
بل إن الأمر تجاوز الصمت إلى التبرير أحياناً، حيث رأينا وفوداً من علماء دين يزورون الصين في جولات منظمة بعناية، ثم يعودون ليتحدثوا عن "التسامح الديني" و"التعايش السلمي" الذي تم التلقين لهم من قبل الجهات المنظمة للزيارات الممنهجة، متجاهلين تقارير المنظمات الحقوقية الدولية وشهادات آلاف اللاجئين الذين تمكنوا من الفرار.
هؤلاء العلماء يقدمون - عن قصد أو غير قصد - غطاءً دينياً للانتهاكات، ويساهمون في تشويه الحقيقة وتضليل الرأي العام الإسلامي. فكيف يمكن تبرير معسكرات الاعتقال المسمى صينيا ب"مراكز إعادة التأهيل" التي تحتجز الملايين من المسلمين لمجرد التزامهم بتعاليم دينهم الأساسية؟
الخطاب الإعلامي الإسلامي والتغييب المتعمد
وسائل الإعلام الإسلامية، سواء الرسمية أو الخاصة، تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في تغييب قضية تركستان الشرقية عن الوعي الجمعي للأمة. فبينما تخصص ساعات طويلة من البث لقضايا إسلامية أخرى، نجد تغطية هزيلة لقضية تركستان الشرقية، إن وجدت أصلاً.
هذا التغييب المتعمد يعكس تأثير العلاقات الاقتصادية والسياسية على الخطاب الإعلامي، ويظهر مدى ترسخ الرقابة الذاتية على القضايا المرتبطة بالصين في الإعلام الإسلامي.
المصالح الاقتصادية والسياسية: الثمن الباهظ للصمت
يبرر الكثيرون صمت الدول الإسلامية بالحسابات الاقتصادية والسياسية المعقدة. فالصين أصبحت الشريك التجاري الأول للعديد من الدول الإسلامية، وتقدم استثمارات ضخمة في إطار مبادرة "الحزام والطريق". كما أن العديد من الدول الإسلامية تعتمد على الصين في التسليح والتكنولوجيا والبنية التحتية.
لكن السؤال الأخلاقي العميق يبقى: ما هو الثمن الأخلاقي لهذه المصالح؟ وهل يجوز في الفقه الإسلامي - الذي يضع نصرة المظلوم في مرتبة عالية من الواجبات - التضحية بمعاناة ملايين المسلمين مقابل مصالح اقتصادية؟
إن مبدأ "الأخوة الإسلامية" الذي تتغنى به المنابر الإسلامية يتعرض لاختبار حقيقي في قضية تركستان الشرقية، وما نراه حتى الآن يشير إلى أن المصالح المادية قد طغت على المبادئ الأخلاقية والدينية.
التناقض بين الخطاب والممارسة
يبرز تناقض صارخ بين الخطاب الإسلامي الذي يتحدث عن وحدة الأمة ونصرة المظلومين، وبين الممارسة العملية تجاه قضية تركستان الشرقية. هذا التناقض يفقد الخطاب الإسلامي مصداقيته، ويظهر أن الشعارات الإسلامية قد تحولت في كثير من الأحيان إلى مجرد شعارات جوفاء.
كما أن هذه الازدواجية تقوض موقف العالم الإسلامي في قضايا أخرى يتبناها، إذ كيف يمكن للعالم أن يأخذ بجدية احتجاجات الدول الإسلامية على انتهاكات لحقوق المسلمين في مناطق أخرى، بينما تصمت هذه الدول نفسها عن انتهاكات أشد قسوة في تركستان الشرقية؟
أصوات مستقلة في وجه التيار
وسط هذا الصمت المطبق، تبرز أصوات قليلة شجاعة تحاول كسر جدار الصمت. علماء مستقلون ومفكرون إسلاميون ونشطاء حقوقيون يرفعون أصواتهم دفاعاً عن مسلمي تركستان الشرقية، متحملين ضغوطاً هائلة وتهميشاً من المؤسسات الرسمية.
هؤلاء يواجهون اتهامات بـ"تعكير العلاقات" مع الصين، أو حتى بـ"خدمة أجندات غربية"، في محاولة لتشويه مواقفهم المبدئية. لكنهم يستمرون في نضالهم الأخلاقي، معتبرين أن نصرة المظلوم واجب ديني وإنساني لا يمكن التخلي عنه.
دور الشعوب الإسلامية والمجتمع المدني
في ظل تقاعس المؤسسات الرسمية، يبرز دور الشعوب الإسلامية والمجتمع المدني كأمل لتغيير المعادلة. فنشطاء حقوق الإنسان المسلمون والمنظمات غير الحكومية ووسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً متزايداً في نشر الوعي بقضية تركستان الشرقية.
حملات المقاطعة الشعبية للمنتجات الصينية، والاحتجاجات المتفرقة، والندوات التوعوية، كلها مؤشرات على بداية صحوة شعبية قد تؤدي - على المدى البعيد - إلى تغيير في المواقف الرسمية.
التبعات الأخلاقية والتاريخية للصمت
إن الصمت الإسلامي تجاه معاناة تركستان الشرقية سيبقى وصمة عار في جبين هذا الجيل من المسلمين. فالتاريخ سيسجل كيف أن أمة بأكملها، تزعم أنها موحدة في إيمانها وتضامنها، تغاضت عن محاولة ممنهجة لمحو هوية مسلمة عريقة.
وستطرح الأجيال القادمة أسئلة صعبة: أين كانت الدول الإسلامية عندما كانت تركستان الشرقية تعاني؟ أين كانت المؤسسات الدينية؟ أين كان العلماء والمفكرون؟ لماذا تحرك العالم الإسلامي لقضايا أقل حدة، وصمت عن هذه المأساة الكبرى؟
خاتمة: هل من صحوة قبل فوات الأوان؟
قضية تركستان الشرقية ليست مجرد اختبار سياسي أو اقتصادي، بل هي اختبار أخلاقي وديني للعالم الإسلامي بأسره. إنها تكشف بوضوح المسافة بين الشعارات والممارسة، وبين المثاليات والواقع.
لكن الأمل يبقى في أن تؤدي الجهود المتزايدة على المستوى الشعبي، وارتفاع الوعي بالقضية، إلى تغيير تدريجي في المواقف الرسمية. فالتاريخ يشهد أن الشعوب - عندما تتحرك بوعي وإصرار - يمكنها أن تصنع الفارق.
السؤال الذي يبقى معلقاً: هل ستستيقظ الضمائر قبل فوات الأوان، أم سيسجل التاريخ أن العالم الإسلامي في القرن الحادي والعشرين تواطأ بصمته على إبادة هوية إسلامية تشكلت عبر قرون من الحضارة؟
الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مصير مسلمي تركستان الشرقية، بل أيضاً مصداقية الخطاب الإسلامي المعاصر ومبادئه الأخلاقية في مواجهة التحديات الكبرى.
إعداد: تركستان تايمز