نُشر مؤخراً في مجلة "Slate"، المنصة الإخبارية الوطنية الفرنسية، مقال للصحفيين الاستقصائيين ليا بولفيريني وروبن توتانج، بدعم من مركز بوليتزر، بعنوان "الأويغور المتروكون لمصيرهم على طريق الحرير الجديد بين الصين وكازاخستان وقيرغيزستان". يكشف هذا المقال، بتحليله العميق، وبأدلة متعددة الجوانب وملموسة، كيف أن الصين، تحت قناع التعاون الاقتصادي لمبادرة "حزام واحد، طريق واحد"، قد نقلت إبادتها الجماعية للشعوب التركية المسلمة، وفي القلب منهم الأويغور في تركستان الشرقية، إلى ما وراء حدودها لتشمل جمهوريات آسيا الوسطى. يكتسب هذا المقال قيمة علمية وعملية هامة لأنه يفضح كيف أن الصين، من خلال ضغوطها الاقتصادية والسياسية، تُضعف حقوق السيادة للدول المجاورة وتحولها إلى أداة لتنفيذ سياساتها القمعية العابرة للحدود، مُبيّناً أن هذه القضية ليست مجرد مشكلة إقليمية، بل تشكل تهديداً خطيراً للقيم العالمية مثل العلاقات الدولية وسيادة الدول وحقوق الإنسان. ويثبت المقال بأمثلة حية الحقيقة الوحشية المختبئة وراء دبلوماسية الصين الاقتصادية، وهي أن الاتفاقيات التي تقدر بمليارات الدولارات هي في الواقع أداة لشراء الولاء السياسي والضمير الإنساني.
مبادرة "طريق الحرير الجديد": تحول من التعاون الاقتصادي إلى أداة جيوسياسية
يبدأ المقال بتحليل كيف أن مبادرة "حزام واحد، طريق واحد"، التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013، قد رفعت الأهمية الاستراتيجية لتركستان الشرقية إلى مستوى غير مسبوق. فهذه المنطقة، كونها نقطة التقاء لخطوط النفط والغاز وبوابة للأسواق الدولية، أصبحت ممراً لا مفر منه للممرات الاقتصادية الصينية نحو أوروبا. ويستشهد المقال بسوق "دوردوي"، أكبر أسواق آسيا الوسطى على مشارف العاصمة القيرغيزية بيشكيك، كمثال يوضح كيف أن آلاف الحاويات القادمة من الصين تشكل شريان الحياة التجاري هناك، حتى أن "القبعة" التقليدية للقيرغيز (الكالباك) أصبحت تُصنّع بثمن بخس في تركستان الشرقية وتُجلب إلى هناك. هذا المشهد يكشف جوهر مبادرة "حزام واحد، طريق واحد": فبينما يزداد التبعية الاقتصادية للمنطقة بأكملها للصين تحت ستار التنمية الاقتصادية والتعاون التجاري، تتحول هذه التبعية مع مرور الوقت إلى خضوع سياسي. ويتم تجاهل وجود عشرات المعسكرات والسجون في تركستان الشرقية في خضم ضجيج هذه التجارة، بل ويُفرض قيود حتى على مجرد ذكرها. ترى الصين في هذه الرافعة الاقتصادية فرصة ذهبية لزيادة نفوذها الإقليمي على جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى، والتخلص من اعتمادها على روسيا في مجال الطاقة، والأهم من ذلك، تنفيذ القمع العابر للحدود ضد معارضيها السياسيين دون عقاب. فصمت هذه الدول وتعاونها يتم شراؤه مقابل اتفاقيات بمليارات الدولارات.
تركستان الشرقية: القمع المنهجي في "الحدود الجديدة"
يكشف المقال أنه منذ عام 2014، يُمارس في هذه الأراضي التي تسميها حكومة بكين "شينجيانغ" (الحدود الجديدة)، ولكن سكانها الأصليين يسمونها "تركستان الشرقية" أو "أرض الأويغور"، إرهاب دولة لم يسبق له مثيل. في أقل من عقد من الزمان، تم زج أكثر من مليون شخص، أي ما يعادل أكثر من سدس السكان المسلمين في المنطقة، في معسكرات الاعتقال أو السجون. ورغم أن غالبيتهم من الأويغور، إلا أن من بينهم أيضاً أفراداً من قوميات أخرى مثل الكازاخ، والقيرغيز، والدونغان، والمغول، والأوزبك، والتتار. تعتبر الحكومة الصينية وجودهم تهديداً لوحدة الدولة ومصالحها الاقتصادية. تهدف الاتهامات الملفقة مسبقاً مثل "الانفصالية" أو حتى "الإرهاب"، وما يتبعها من عقوبات، إلى القضاء على أي مطالب بالاستقلال أو الحكم الذاتي، بل وحتى أبسط رغبة في الحرية. وبهذه الطريقة، يُستهدف خلق كتلة من الناس تعيش في رعب، خاضعة ومستسلمة لمصيرها. جميع هؤلاء هم أشخاص يحملون أو كانوا يحملون جواز سفر صيني، وقد أُخضعوا لبرامج "إعادة تأهيل" تتراوح بين الضغط النفسي والتعذيب الجسدي، وقد تصل إلى الموت. ويؤكد المقال على مدى خطورة القمع، خاصة بعد الكشف عن حالات التعقيم القسري وتحديد النسل التي كشفت عنها وكالة أسوشيتد برس وعالم الأنثروبولوجيا الألماني أدريان زينز في يونيو 2020، مما دفع العديد من الخبراء إلى الاتفاق على وصفها بأنها "إبادة جماعية".
الخوف العابر للحدود: مصير الأويغور في آسيا الوسطى
يوضح المقال بأمثلة ملموسة كيف أن قمع الصين لا يتوقف عند الحدود، بل يمتد إلى دول آسيا الوسطى، مما يجعل الأويغور والشعوب التركية الأخرى هناك يعيشون في خوف دائم. وتعتبر محادثة شاب أويغوري يُدعى برهان، يعيش في قيرغيزستان، مع عمه في كاشغر عبر تطبيق "وي تشات" الصيني، مثالاً نموذجياً على ذلك. فتردد عمه خلال المحادثة حتى في قول "السلام عليكم" واكتفاؤه بمواضيع سطحية عن الطقس والتجارة، يظهر مدى تغلغل آلية المراقبة الصينية في الحياة اليومية للناس. ورغم أن عم برهان يعمل في التجارة، إلا أنه يتعرض لتفتيش المسؤولين الصينيين في منزله يومياً، وحتى عندما يسافر إلى الدولة المجاورة للتجارة، لا يستطيع أبداً الخروج عن المسار المحدد له. هذا يثبت أن حتى الأنشطة الاقتصادية تخضع لرقابة سياسية صارمة. إن عبور الحدود أصبح عملية محفوفة بالمخاطر في كل لحظة بالنسبة للأقليات في هذه المنطقة. فقد تم اعتقال العديد من التجار والمسافرين أثناء عبورهم الجمارك وإرسالهم مباشرة إلى المعسكرات. والاتهامات تكون تعسفية للغاية: فقد اعتقل "كيراجي عسكر"* للاشتباه في "انفصاليته"، وآخر للاشتباه في "تطرفه الإسلامي"، بينما اعتقلت "رحيمة" لمجرد تحميلها تطبيق واتساب. شعرة لحية واحدة أو كتاب باللغة الأويغورية يمكن أن يعتبر دليلاً على التمرد ويؤدي إلى عقوبات قاسية.
موقف الدول المجاورة: خضوع قيرغيزستان ومقاومة كازاخستان الضعيفة
يقارن المقال بين مواقف دولتين مجاورتين مهمتين في آسيا الوسطى، قيرغيزستان وكازاخستان، تجاه الصين، كاشفاً عن الطبقات المختلفة لنفوذ الصين في المنطقة.
كانت قيرغيزستان تُعتبر في السابق واحدة من أكثر دول آسيا الوسطى ديمقراطية، لكنها انحرفت بعد إصلاحات عام 2009 نحو اتجاه استبدادي وقومي. وحكومة صدر جباروف، التي تتولى السلطة منذ عام 2021، حولت الدولة إلى "دولة مافيوية". بالإضافة إلى ذلك، فإن التوترات العرقية في المجتمع، خاصة المذابح التي استهدفت الأوزبك في عام 2010، قد مهدت الطريق للعنف ضد الأقليات. في مثل هذه البيئة، ورغم أن الأويغور لم يتعرضوا لعنف مستهدف، إلا أنهم أصبحوا بيادق سهلة في لعبة التحالفات السياسية والاقتصادية، مما جعلهم في وضع هش للغاية. وكما ذكر باحث أويغوري، فإنهم يعيشون في خوف دائم، ويعلمون أنهم ليسوا مواطنين "عاديين" وأنهم قد يُرحّلون من قيرغيزستان في أي لحظة. وعندما سألت لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري حكومة قيرغيزستان عن حالات إعادة اللاجئين الأويغور والأوزبك إلى الصين، تجنبت السلطات القيرغيزية الإجابة. وبالنظر إلى أن حوالي 40% من ديون قيرغيزستان الخارجية مستحقة للصين، فمن المتوقع ألا يرغبوا في التدخل في "شؤون الصين الداخلية"، بل وعدم تجرؤهم حتى على حماية حقوق مواطنيهم القيرغيز في تركستان الشرقية.
أما وضع كازاخستان فيختلف قليلاً. فالناتج المحلي الإجمالي للبلاد يفوق نظيره في قيرغيزستان بـ 16.5 مرة، وتمتلك موارد غنية من النفط والغاز. ورغم أن حكومة كازاخستان تتجنب أيضاً المواجهة المباشرة مع الصين، إلا أنه نتيجة لجهود المجتمع المدني التي استمرت لسنوات طويلة، وخاصة منظمة "أتا-جورت" لحقوق الإنسان التي أسسها سيريكجان بيلاش، نشأ توازن قوى أدى إلى عودة الآلاف من معتقلي المعسكرات الكازاخستانيين. استراتيجية منظمة "أتا-جورت"، التي استغلت عدم رغبة الصين في تسليط الضوء على قضاياها في وسائل الإعلام، عبر جمع شهادات عائلات المعتقلين ونشرها للرأي العام الدولي وممارسة الضغط عبر القنوات القانونية، قد أتت أكلها إلى حد ما. ومع ذلك، يواجه نشطاء حقوق الإنسان في كلا البلدين هجمات مشتركة من قبل دولهم وأجهزة أمن الدولة الصينية؛ حيث يواجهون تهديدات وتشهيراً ومصادرة لأرشيفاتهم واعتقالات.
الهدف الاستراتيجي لمبادرة "الحزام والطريق": السيطرة والاستيعاب (الصهر الثقافي)
يستشهد المقال بآراء فريديريك لاسير، أستاذ الجغرافيا في جامعة كيبيك الكندية وخبير "طريق الحرير الجديد"، الذي يرى أن مبادرة "الحزام والطريق" هي أداة مهمة للسيطرة على تركستان الشرقية. ووفقاً لـ "لاسير"، يكمن نجاح هذه المبادرة في استعداد الصين، على عكس الدول الغربية واليابان، للاستثمار بكثافة في مشاريع حتى لو كانت غير مربحة اقتصادياً، ودون أي شروط مسبقة. في الواقع، تقوم الصين بتضخيم إحصاءاتها من خلال إعادة تسمية المشاريع القائمة مسبقاً تحت مسمى مبادرة "الحزام والطريق". على سبيل المثال، كان خط السكك الحديدية بين الصين وقيرغيزستان وأوزبكستان مشروعاً قيد التفاوض منذ التسعينيات. كل هذه المشاريع تزيد من الأهمية الاستراتيجية لتركستان الشرقية، لأنه من الضروري المرور عبرها لتطوير هذه الطرق. يحلل "لاسير" الوضع قائلاً: "الحكومة المركزية الصينية قلقة من عدم قدرتها على السيطرة الكاملة على شينجيانغ. يمكننا أن نفترض أن مبادرة 'الحزام والطريق' صُممت كأداة لتحقيق هذا الهدف. فتطوير البنية التحتية لا يتيح نقل البضائع فحسب، بل يتيح أيضاً نقل الجنود عند الحاجة. إنهم يأملون في السيطرة على المنطقة بشكل أفضل من خلال إنشاء مراكز صناعية وقواعد لوجستية، وجلب العمال والمسؤولين الصينيين لزيادة عدد سكان الهان بشكل ملحوظ، وتوفير فرص عمل ونمو اقتصادي لجذب الأويغور." هذا في الواقع هو استخدام لسياسة "العصا والجزرة" (القمع والمصالح الاقتصادية) معاً.
تصدير الاستعمارية والسجناء العابرون للحدود
لا تقتصر مبادرة "الحزام والطريق" الصينية على التعاون الاقتصادي وبناء البنية التحتية فحسب. فمعها، يتم أيضاً تصدير نموذج الحكم الصيني كبديل أيديولوجي للديمقراطية الليبرالية الغربية. ويحظى هذا النموذج بقبول خاص من الأنظمة الاستبدادية المجاورة. عندما استُقبل رئيس قيرغيزستان صدر جباروف بحفاوة في بكين في فبراير 2025، وأعلن أن التعاون الصيني القيرغيزي قد دخل "عصراً ذهبياً جديداً"، أكد مجدداً أنه سيدعم الصين دائماً بحزم في قضايا تايوان وشينجيانغ وهونغ كونغ. هذا هو ألمع دليل على أن المساعدة الاقتصادية الصينية تُستبدل بالولاء السياسي.
أما النتيجة الأكثر رعباً لهذا التعاون السياسي فهي التنفيذ الفعلي للقمع العابر للحدود. وتعتبر قصة "ميرغول" التي يرويها المقال مثالاً حياً على ذلك. "ميرغول"، وهي كازاخية من تركستان الشرقية، تعرضت للتعذيب في أحد المعسكرات لمدة ثمانية أشهر في عام 2018، حيث أُجبرت على الإجهاض وتعرضت للاغتصاب. وحتى بعد أن هربت بصعوبة إلى كازاخستان وحصلت على جنسيتها، لم يُحذف اسمها من قاعدة بيانات الصين. في صيف عام 2023، عندما ذهبت لمقابلة شقيقتها التي بقيت في تركستان الشرقية في المنطقة التجارية المحايدة على حدود خورغوس، تم التعرف عليها بواسطة كاميرا التعرف على الوجه. وعندما بدأ رجال الشرطة الصينيون بمطاردتها، أخذت ابنتها الصغيرة وهربت بكل قوتها نحو الجانب الكازاخستاني ونجت بأعجوبة بمساعدة سائق حافلة. هذه الحادثة تكشف كيف تحاول الصين اعتقال مواطنة لدولة أخرى بشكل تعسفي في منطقة يُفترض أنها "محايدة"، دون أي احترام لحقوق سيادة الدول المجاورة. تقول الناشطة في "أتا-جورت"، كريمة عبد الرحمنوفا، بألم حول هذا الموضوع: "هل يمكنكم تخيل مدى النفوذ الذي تتمتع به الصين على كازاخستان؟ كيف يجرؤون على فعل مثل هذه الأشياء لمواطنة أجنبية؟". هذا يثبت أن تغيير جواز السفر لا يوقف بكين؛ فحتى لو تخلى مواطن صيني عن جنسيته السابقة وأصبح تابعاً لدولة أخرى، فإن اسمه سيبقى إلى الأبد في قوائم السلطات الصينية.
الخاتمة
يكشف مقال ليا بولفيريني وروبن توتانج التحليلي بأدلة عميقة ومؤثرة أن مبادرة "الحزام والطريق" ليست مجرد مشروع اقتصادي، بل هي أداة متعددة الوظائف لتحقيق أهداف الصين الجيوسياسية، وتصدير نموذجها الاستبدادي، وتطبيق القمع العابر للحدود. يفضح المقال كيف أن الصين، باستخدام قوتها الاقتصادية، تجعل الدول المجاورة، وخاصة الدول التابعة اقتصادياً مثل قيرغيزستان وكازاخستان، شركاء في جرائمها اللاإنسانية. هذه الدول، على الرغم من قربها التاريخي والثقافي، تضطر أو تختار التخلي عن أبناء جلدتها من أجل المصالح الاقتصادية.
عند مقارنة المشاهد المصورة في المقال: التجارة الصاخبة في سوق دوردوي، والصمت المليء بالخوف على "وي تشات"، وصراع البقاء على قيد الحياة على حدود خورغوس، يتضح أن "طريق الحرير الجديد" له وجه مزين بالفرص الاقتصادية ومستقبل مشرق، بينما وجهه الآخر مليء بالمآسي الإنسانية والخوف واليأس. هذه ليست قضية الأويغور أو الشعوب التركية الأخرى في آسيا الوسطى فحسب، بل هي قضية عامة تتعلق بكيفية تعامل المجتمع الدولي مع المبادئ الأساسية مثل سيادة الدول وحقوق الإنسان والقانون الدولي. في ظل نفوذ الصين المتزايد، فإن صمت وتعاون دول هذه المنطقة يعرض مصير شعب بأكمله للخطر، ويكشف هذا المقال بواقعية مريرة كيف أن "طريق الحرير الجديد" قد تحول في الواقع إلى فخ لا مفر منه للكثير من الناس.
3 أكتوبر 2025