الحَمَامَةُ البَرِّيَّةُ (ياۋا كەپتەر)

مقدمة المترجم ( Bahadir Harun) : هذه القصة الرمزية كتبها الأديب الأويغوري "نور محمد ياسين" من تركستان الشرقية. وبسبب هذا العمل الأدبي، اعتقلته السلطات الصينية وحكمت عليه بالسجن عشر سنوات، حيث استشهد في محبسه -رحمه الله وتقبله-. تكشف هذه القصة بلسان الطير مأساة الحرية والعبودية، وتُعد صرخة في وجه الطغيان. اللهم فك قيد أسرانا، وارحم شهداءنا، والحرية لشعب تركستان الشرقية!


خُيِّل إليَّ أنني أحلق في كبد تلك السماء الزرقاء، لم أكن أدرك حينها أكان ذلك حلماً أم حقيقة. كانت الرياح تعصف تحت جناحيَّ، وشعورٌ غامرٌ بالحماسة يسري في عروقي. طاقةٌ هائلة تملأ جسدي، والسماء زرقاء صافية، وعالمٌ فسيح يغمره ضوء الشمس الساطع. يا له من منظر خلّاب! ازداد إلهامي فصعدتُ محلقاً إلى الأعلى، حتى توارى "وادي الفراولة" عن ناظري.

اتسع العالم أمامي فجأة، وبدا وكأنه مائدة خضراء ممتدة. كان مشهداً لم تألفه عيناي من قبل، ومكاناً أزوره لأول مرة، ومع ذلك شعرتُ وكأنه وطني. بدا كل شيء جميلاً، وفجأة لاحت لي مبانٍ ومناطق سكنية، ورأيتُ كائنات صغيرة تتحرك، فأدركتُ أنهم "البشر" الذين حدثتني أمي عنهم. لكنهم لم يبدوا لي بتلك الخطورة التي وصفتها.

ظننتُ أن أمي قد شاخت وكبرت مخاوفها؛ إذ كيف لمخلوق يزحف على الأرض أن يكون أقوى منا نحن أسياد السماء؟ ربما لم أمتلك الشجاعة الكافية لفهم حكمتها آنذاك. باختصار، لم أشعر بالخطر. كانت أمي تقول دائماً: "البشر يخفون حيلاً كثيرة في بطونهم، وإن لم تكن حذراً سيجعلونك حبيس القفص في غمضة عين". تملكتني رغبة مفاجئة لاستكشاف تلك "الحيل" التي في بطونهم، وبدأتُ أحوم حول المنطقة.

اتضحت الرؤية أمامي؛ أغنامٌ، وأبقارٌ، ودجاجٌ، وأشياء لم أرها من قبل. كان هناك سربٌ من الحمام يحلق في السماء، والبعض الآخر يجاثم على ألواح خشبية مخصصة للهبوط. هبطتُ لأتحدث معهم، أو ربما لأستريح، كانت مشاعري حينها مبهمة، لكنني كنت فضولياً بشأن حياتهم.

بادرني حمامٌ مسنّ بسؤال: "من أي البلاد أنت؟". لم أكن متأكداً إن كان هو زعيم السرب، ولم أكترث لذلك، فأنا لست فرداً من قطيعهم. قلت: "من وادي الفراولة". ردّ قائلاً: "سمعتُ بهذا الاسم من جدي. أجدادنا جاؤوا من هناك، لكنني سمعت أن تلك المنطقة تبعد عنا مسيرة أشهر، ونحن عادة لا نستطيع الطيران لأيام متواصلة. لعلّك ضللت طريقك؟". عندما سمعت أنه لا يستطيع الطيران لأيام، عزوتُ ذلك لشيخوخته. أجبته: "لم آتِ هنا لأنني ضللت طريقي، بل جئت للتدرب على الطيران. يمكنني التحليق لأيام دون طعام". نظر إليّ بدهشة وقال: "ربما أنت حمام بريّ. الجميع يتحدث عنكم، لكننا لا نملك شجاعتكم. نحن لا نفكر سوى في القفص، وأنا لم أبتعد عن هذه المنطقة قط. ولماذا أبتعد؟ لدينا ألواح للهبوط وأقفاص للمبيت، وفوق ذلك أنا الآن أبٌ لأفراخ، وصاحبنا (يقصد مالكهم من البشر) يعتني بنا جيداً". حكّ الحمام العجوز منقاره بمخالبه. سألته: "سمعت أن البشر مروعون جداً، وأنهم يستعبدون أرواحنا إذا أمسكوا بنا، هل هذا صحيح؟". تعجب حمام صغير وسأل: "ما هي الروح؟".

ذهلتُ لجهله بمعنى الروح! كيف يربي هؤلاء الحمام صغارهم؟ وما فائدة الحياة بلا روح؟ أحوالهم بدت قاسية، لكنهم لا يدركون ذلك. ورغم أن الروح والحرية لا تُمنح كهدية، إلا أنني شعرت في أعماقي أن هؤلاء المساكين في أمسّ الحاجة إلى نفحة من الحرية الروحية. مسح الحمام الكبير رأس الصغير وقال: "أنا لا أعرف ما هي الروح، سمعتها من جدي، وجدي سمعها من جده. كان يقول: لقد مر زمن طويل منذ أن فقدنا روحنا". ثم التفت إليّ وقال: "يا بني، هل تعرف أنت ما هي الروح؟". تحيرتُ وقلقُت من عجزي عن الإجابة، فقلت: "لا أعرف تعريفاً دقيقاً الآن، لكن أمي كانت تقول: روح أبيك وشجاعته تنضج في داخلك". تنهد الحمام الكبير بحسرة وقال: "نعم، هذا يعني أن إرث أبيك ينمو فيك. أما نحن، فقد ضاعت روح عائلة الحمام بأكملها منذ زمن بعيد. لم تخبرنا أمهاتنا قط عن الروح، لذا دخلنا عصراً بلا روح. آه، كم سيكون رائعاً لو اكتشفنا ماهية روحنا الضائعة!".

قلت له بجدية: "بسبب فقدانكم للروح، أصبحتم عبيداً للبشر جيلاً بعد جيل. صرتم طعاماً يأكلونه متى شاؤوا، ورضيتم بالهوان حتى أنكم لا تطيرون إلا بإذنهم. أنتم بحاجة إلى قائد، ولكن قبل ذلك، عليكم التحرر من عبودية الروح". ثم أضفت بتعاطف: "أنت لا تعرف الروح، لِمَ لا تأتي معي لتسأل أمي؟". أجاب بيأس: "لقد دنا أجلي، وقدم في القبر وأخرى خارجه. إلى أين أذهب تاركاً قفصي الآمن لأبحث عن شيء لا أعرفه؟ وما الفائدة إن وجدته؟".

بينما نحن نتحدث، نزل سرب آخر من الحمام الغريب، يتحدثون لغة لم أفهمها. سأل الحمام الكبير فرخاً صغيراً منهم يتدلى بضعف: "كيف حالك يا صغيري؟". قال الصغير: "لست بخير، أنا جائع. لماذا لا تعطيني أمي الحبوب؟". قال الحمام الكبير: "والدتك تجمع قوتها لتضع إخوة جدداً لك. انتظر حتى يأتي (الإنسان) ويعطيك الحبوب". صرخ الصغير: "لا أستطيع الانتظار! سأخرج إلى الحقل لأجد الحبوب بنفسي". نهره الكبير: "إياك! الخارج خطير جداً، سيقبض عليك البشر الأشرار ويأكلونك".

عبس الصغير وصمت. تعجبت كيف يعيشون مع هؤلاء البشر الذين يأكلونهم؟ ربما فهمت كلمة "يأكل" خطأً، أو لعل معناها هنا يختلف. لكن أمي كانت تحذرني دائماً من أن "يأكلني" البشر. سأل الصغير: "هل مالكنا طيب؟". أجاب الكبير: "بالطبع طيب". رد الصغير: "ولكن لماذا يقبض علينا ويأكلنا؟". أجاب الكبير بفلسفة العبودية: "إنه يستحق أن يأكلنا لأنه يطعمنا في القفص. لا حق لأحد في مقاومة ذلك".

أخيراً فهمت! كلمة "الأكل" هنا تعني الاستهلاك والذبح، تماماً كما أعرفها. أدركت أن شكوكي كانت في محلها. قال الصغير: "لكنني لم أستطع أكل الحبوب التي أعطانا إياها سيدنا، والكبار أكلوها كلها. أنا نحيل وأكاد أموت". رد الكبير: "ستكبر وتتعلم كيف تتزاحم على الطعام. هذه هي البيئة التي نعيش فيها". قاطعته قائلاً: "أنت تقيد حريته! دعه يعيش بإرادته. أنتم تأكلون طعام الضعفاء وتبررون ذلك. كيف يمكن لنسل الحمام أن ينمو سليماً في هذه البيئة؟ أنتم تكادون تشبهون البشر في شرورهم!". غضب الحمام الكبير وصاح: "لا تذمّ البشر، فلولاهم لما كنا هنا! اذهب وانشر أفكارك المسمومة في مكان آخر".

حاولت أن أشرح له، وفجأة شعرت بألم حاد في ساقي، وسمعت صوت "طراااخ". رفرفت بجناحي لأطير لكنني وجدت نفسي معلقاً في الهواء. لقد وقعت في الفخ! طار الحمام من حولي، وقال الكبير شامتاً: "ها قد انتهى بك المطاف في القفص. سنرى إن كنت ستتحدث بكبرياء الآن". أدركت أن الحمام الكبير كان يلهيني بحديثه حتى يقبض عليّ مالكه. امتلأ قلبي بألم لا يوصف، ليس من غدر البشر، بل من خيانة بني جنسي الذين استمريؤوا العبودية. حاولت المقاومة بكل قوتي، حتى لو كسرت ساقي، المهم أن أتحرر. وفجأة سمعت صوتاً: "بني، استيقظ، ما بك؟".

فتحت عيني لأجد أمي تحدق بي. كان مجرد كابوس! حمدتُ الله، ومسحتُ العرق عني. قصصتُ على أمي ما رأيت، فقالت بحزن: "لقد رأيتَ مصير أجيالك القادمة يا بني". ثم أردفت: "البشر يزحفون نحو بيئتنا، يريدون إخراجنا من أرضنا، وتغيير هويتنا، وتحويل نسلك إلى هجين لا يعرف أصله. قريباً ستبنى المصانع، وتتلوث أنهارنا، ولن يرى أحفادك هذه الطبيعة العذراء. يجب أن نجد مكاناً آخر. لا منقذ لنا إلا أنفسنا".

أخذتني أمي إلى الخارج، ووقفنا على وادٍ مرتفع. قالت: "هذا موطنك، أرض أجدادك. جدك ووالدك جعلا هذا المكان آمناً. والآن حان الوقت لأخبرك عن والدك". سألتها بلهفة: "كيف مات أبي؟". قالت: "قبل بضعة أيام رأيتُ بشراً هنا، وهذا يعني أن الخطر اقترب. والدك ضحى بحياته على أيديهم. خرج يوماً للبحث عن طعام ولم يعد. وقع في فخ البشر. وعلمتُ لاحقاً أنه حين وُضع في القفص، قام بعضّ لسانه وقطعه، كما هي عادة الملوك من الحمام البري. رفض العيش في القفص، واختار الموت جوعاً وعطشاً على أن يأكل من يد آسريه. مات حراً. هذا هو إرثنا يا ولدي". اهتزت روحي لكلماتها، وشعرت بالفخر يسري في عروقي. عانقت أمي مودعاً، وانطلقت في رحلتي للبحث عن موطن جديد وآمن.

طرتُ طويلاً، متجنباً البشر، محلقاً عالياً. حل المساء، وقررت المبيت على شجرة. في الصباح، أيقظني صوت رفرفة أجنحة. رأيت سرباً من الحمام يشبهني. تبعتهم وسألتهم: "إلى أين؟". قالوا: "نبحث عن الحبوب". نزلت معهم إلى بيدر قمح، وبدأت ألتقط الحب باطمئنان. وفجأة، انطبقت عليّ شبكة! حاولت الإفلات ولكن دون جدوى. ظهر رجلان، قال الأصغر: "حمام بري! لنربط جناحيه". أمسك بي الرجل الكبير وقال: "هذا النوع لا يفيد، انظر، لقد بدأ يعض لسانه. سيقتل نفسه ولن يأكل طعامنا. دعه يذهب". أصر الأصغر: "لن أتركه، سأجعله حساءً". حبسني في قفص ضيق. حاولت ضرب نفسي لأموت، لكنني كنت مقيداً بإحكام. مرّت الأيام، وأنا أرفض الطعام والشراب، أتضور جوعاً، وأحلم بأمي وأبي يناديانني.

كان الرجلان يتحدثان عن عنادي. "ألم أقل لك إنه سيموت؟" قال الكبير. في اليوم الخامس، كنتُ أنازع الروح. فجأة، شممت رائحة مألوفة. فتحت عينيّ بوهن، فرأيت أمي! وقفت أمام القفص وعيناها تلمعان بجدية وحزن. قلت بصوت مبحوح: "أمي، سامحيني، لم أستحق أن أكون ابنك". قالت بحزم: "لا، لقد فعلت ما بوسعك. والآن، يجب أن ننهي الأمر". "جئت لأحررك يا بني، لكن ليس كما تظن". أخرجت من فمها حبة فراولة وقالت: "هذه فراولة سامة. كُلها لتتخلص من عبوديتهم وتحفظ شرف العائلة. الحرية لا تُنال بالاستعطاف، بل بحرق الدم. اقترب". مددت منقاري المكسور نحوها، والتقطت الفراولة السامة. سرى السم في جسدي كترياق للحرية. شعرتُ بالراحة تسري في روحي، وفرحتُ بأنني سأموت حراً أخيراً. كانت السماء صافية، والعالم لا يزال جميلاً، بينما كان حمام القفص يحدق بي في ذهول.

نور محمد ياسين 24 مارس 2004، مارالبشي، كاشغر، تركستان الشرقية.