استيقظت أسرة الشيخ التركستاني “عبد الأحد برات مخدوم” يوم 27 مايو 2018، على إبلاغ السلطات الصينية لها بوفاة الشيخ في السجن، عن عمر يناهز الثمانية والثمانين عاما، بمدينة خوتان بتركستان الشرقية، بعد مضى ما يقرب من ثمانية أشهر على اعتقاله، وحياة الشيخ “مخدوم” حافلة بالشدائد، والابتلاء، لمواقفه المحافظة على هوية المسلمين من ذوي الأصول الإيغورية.
خمسون عاما من السجون
ولد الشيخ “مخدوم” عام 1930 في مدينة “قارا قاش”، من أسرة عرفت بجهادها الطويل ضد الاحتلال الصيني لإقليم تركستان الشرقية[1]، وتلقى تعليمه في مدارس “كاشغر” بين عام ( 1950- 1958م) وبعد تخرجه عاد إلى مدينة “خوتن” لتدريس العلوم الإسلامية، وبعد ستة أشهر بدأت المعاناة الكبير للشيخ وهو في نهاية العشرينيات من عمره، إذ أعتقل من قبل السلطات الشيوعية، وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما مع الأشغال الشاقة، فقضاها الشيخ في ظروف اعتقال شديدة الصعوبة، ليخرج من السجن وهو كهل في منتصف الأربعينات عام 1974م.
لم تكسر سنوات السجن الطويلة عزيمة الشيخ، بل زادته إصرارا على إكمال طريقه في الدعوة إلى الإسلام من خلال توريث العلم الشرعي، فبدأ بحلقات تدريس العلوم الشرعية في أماكن سرية هربا من القمع الشيوعي، وتخرج على يديه مئات الطلبة، إلا أن الشيخ اعتقل مرة ثانية عام 1979م، بعدما اعتقل الصينيون الكثير من علماء الإسلام في تركستان الشرقية، لم يمكث الشيخ إلا عاما، ليخرج من الاعتقال إلى الإقامة الجبرية؛ فمنع من الحديث مع الناس، أو خطبة الجمعة أو إلقاء الدروس، إلا أن بيت الشيخ أصبح قبله الناس، فقد كان يحتل مكانة كبيرة لدى مسلمي تركستان الشرقية.
وفي العام 2011 يعتقل الشيخ للمرة الثالثة، هو وابنه الشيخ عبد الرؤوف، ليطلق سراحهما بعد شهرين، وتفرض عليه الإقامة الجبرية، فيصبح بيته مقصدا لطلاب العلم، فتضيق السلطات الصينية بنشاطه، فتعتقله للمرة الرابعة عام 2004 من مدينة “خوتن” وهو في الرابعة والسبعين من عمره، إلا أنه في هذه المرة كان يلقي دروسا شرعية لسبعة طلاب، بطريقة سرية بعيدا عن رقابة السلطات، ويحكم عليه بالسجن خمس سنوات، وبعد خروجه يعيش في إقامة جبرية، ثم يعتقل مرة خامسة من منزله، في نوفمبر 2017، وهو في السابعة والثمانين من عمره، ليتوفى وهو خلف القضبان، بعدما قضى منها أكثر من عشرين عاما في السجن، وأكثر من ثلاثين عاما رهن الإقامات الجبرية.
وراء السور العظيم
فتحت وفاة الشيخ “مخدوم” جرح الإسلام في الصين، تلك البلد الكبيرة في سكانها واقتصادها ومساحتها والتي تحتل ما يقرب من 15% من مساحة اليابسة، وكذلك السكان، فالسلطات الصينية تحجب الرقم الحقيقي للمسلمين الذين يعيشون على أراضيها، فالإحصاءات الرسمية تعلن أن عدد المسلمين (24) مليونا، أي حوالي (1.8%) من السكان، في حين أن أرقاما غير رسمية، تؤكد أن عدد مسلمي الصين يتجاوز الخمسين مليونا، وأرقام أخرى ترفع عدد المسلمين إلى مائة مليون نسمة، أي ما يعادل (10%) من السكان.
ويبلغ عدد القوميات في الصين (56) قومية، يشكل المسلمون منها (10) قوميات، ويوجد حوالي (34) ألف مسجد في الصين، و(45) ألف إمام رسمي للصلاة والخطابة ، وغالبية مسلمي الصين من السنة.
وأهم قوميتين مسلمتين، هما “خوي أو هوي”: وتلك القومية هي الأكثر عددا والأكثر انتشارا في المدن والأقاليم الصينية، وتعتبر قومية “الهان” التي تشكل ما يقرب من (90%) الصين، أن قومية “هوي” من نفس أصولهم العرقية، وأنهم صينيون ذوي عراقة، لذا يسمحون لهم بحرية معقولة، في ممارسة شعائرهم، وفي التعليم الديني، أو بمعنى أكثر وضوحا تعطيهم جزءا معقولا من حقوق المواطن دون تضييق كبير بسبب إسلامهم، ويقدر عددهم حسب الإحصاءات الرسمية بعشرة ملايين نسمة، وتتحدث تلك القومية اللغة الصينية، وتبدو الملامح وتفاصيل الحياة متقاربة بين هؤلاء المسلمين وبقية الصينيين.
أما القومية الثانية، فهي “الإيغور”: وغالبية هؤلاء من ذوي أصول تركية، حيث إن الصين احتلت منطقة “تركستان الشرقية” التي كانت تتمتع بحكم ذاتي، وضمتها إليها في العام 1949، وأسمتها شنجيانج، وبين الصينيين وا”الإيغور” حاجز كبير وتاريخي من الدم لم يجف حتى الآن، حيث تعرض مسلمو “الإيغور ” لمذبحتين مروعتين على يد الصينيين الأولى عام (1863م) الثانية عام (1949م) عندما ألغت الصين الحكم الذاتي لتركستان الشرقية وضمتها إليها بعد قتلها لمئات الآلاف من المسلمين.
وتعاني قومية “الإيغور” (حوالي (35) مليون مسلم، حسب بعض الإحصاءات) من قمع صيني مخيف، دفعهم إلى المطالبة بالانفصال عن الصين، بل محاولتهم الثورة على الشيوعية الصينية، وهذا ما أوجد فجوة بين مسلمي “الإيغور” ومسلمي “الهوي”، ويتعرض “الإيغور” لتضييق شديد حتى إن السلطات الرسمية اعترفت عام 2014 أنها اعتقلت (27) ألفا من “الإيغور” في سنة واحدة، وكان من بينهم الشيخ “مخدوم”، وتم إعدام العشرات منهم، أما المعتقلون فكان الانتهاك مروعا داخل السجون.
وحاليا يمنع مسلمو “الإيغور” من بعض الشعائر الدينية، وكلفت الدولة الصينية عام 2018 مئات الآلاف من كوادرها الوظيفية والشيوعية لتختلط بمسلمي “الإيغور” في زيارات أسمتها الصين “الضربة القوية” تهدف لزيادة أعداد الموظفين الحكوميين في المنطقة، والتعرف على حياة هؤلاء المسلمين وتصنيفهم، كذلك يُجبر الموظفون الرسميون على الإفطار في رمضان، وتناول بعض المحرمات، ويمنع الزي الإسلامي والتراثي للإيغوريين.
والحقيقة أن الاقتصاد حاضر في الموقف الصيني المتعنت من “الإيغور” إذ أن أراضي تركستان الشرقية تعوم على بحيرة من النفط، تغطي 80% من الاحتياجات الصينية، كذلك المنطقة غنية باليورانيوم والفحم، كما تعد معبرا بريا للوصول إلى النفط في آسيا الوسطى.
أما بقية القوميات المسلمة مثل:”الطاجيك” و”الأوزبك” و”القرغيز” و”التتار” و”سالار” فيتلقون معاملة مختلفة من السلطات الصينية عن التعامل مع قومية “هوي” المسلمة، معاملة تعتمد على القمع، والتوجس، واللجوء إلى الحل الأمني، والإكراه العقائدي، وحجب الحرية الدينية، وغالبية هؤلاء القوميات بما فيها “الإيغور” لا يتحدثون اللغة الصينية كلغة أم، على خلال قومية “هوي”، ولكن يتحدثون بلغاتهم المتوارثة عن قومياتهم، وتأتي اللغة الصينية في مرتبة ثانية.
[1] كانت تركستان الشرقية دولة مستقلة للإيغور، تسمى جمهورية تركستان الشرقية الأولى سنة 1933، والثانية سنة 1949.وتشير كلمة تركستان في المصادر الإسلامية القديمة، إلى جميع البلاد والأقاليم التي كانت تسكنها الشعوب التركية في العصور الوسطى، فقد كانت تلك الشعوب تمتد على مساحات واسعة من الحدود الغربية للصين حتى الحدود الشرقية للقارة الأوروبية.وتبلغ مساحة تركستان الشرقية ما يزيد عن 1.6 مليون كيلومتر مربع.
وبعد قرون طويلة من السيطرة التركية على منطقة تركستان الشرقية، بدأت قوة الأويغور في الخفوت، مما أدى إلى لفت أنظار الجار الصيني العملاق، ليبدأ التوجه الصيني الجدي نحو تركستان في عام 1884، عندما أصدر الإمبراطور الصيني “زاي تين” مرسوماً قضى بضم تلك المنطقة إلى الصين، فتمت تسميتها بشيانجيانج ، والتي تعني بالصينية “الحدود الجديدة”.ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، أصبحت تركستان الشرقية تابعة للصين، وهو ما أدى إلى قيام سكان الإقليم بالكثير من الثورات ضد السلطة الصينية. ورغم النجاح المؤقت لبعض تلك الثورات، إلا أنها كلها قد باءت بالفشل في نهاية الأمر.